سلسلة: قراءات في الواقع السياسي السوداني (3)

خارطة لبلوغ الرشد السِّياسي في السُّودان مُهداة إلى الحكومة الانتقاليّة

د. ناجي مصطفى بدوي(*)

من المُسلّمات التي لا ينتطح فيها معزان، أنّ العقل والشخصيّة السُّودانيّة على درجةٍ من القُدرة والقابليّة لصناعة واقع سياسي واجتماعي مثاليٍّ، ويُمكن تبرير ذلك في مُرتكزيْن اثنيْن: في موسوعيّة العقل السوداني المُطّلع على تجارب ونماذج الآخرين، وفي مقدرته على التّكيُّف والتعلُّم واكتساب المهارات والفنون الجديدة، ولا شكّ عندي أنّنا في هذا الأوان في أشدّ الحاجة لهذيْن المُرتكزيْن المُهمّيْن.
ومن أجل إكمال مَشروع البناء السِّياسي للسُّودان خلال الفترة الانتقاليّة الحَاليَّة تَمهيداً لعهدٍ وتجربةٍ سياسيةً جديدةٍ خَاليةٍ من الأخطاء القَاتلة والتي أشرت إليها في المَقال السّابق، عَلينا أنّ نتوجّه بكُليّتنا وإرادتنا العازمة خلال الفترة الانتقاليّة لتأسيس ثلاثة مَحاور رئيسة، يَعني الإخفاق فيها أو في أحدها أنّنا نجتر ذات التّجارب السِّياسيَّة التي فشلت في سلميّة تداوُل السُّلطة، وأنّنا ما زلنا موعودين بمزيدٍ من الديكتاتوريّة والثورات والانقلابات.
المحور الأوّل، هو ضرورة تصحيح الفهم حول قضيّة تديُّن المُجتمع ووعيه، ودَورَ المُجتمع ذاته في القيام بهذه المُهمّة دُون الحكومة وأحزابها، هذا المحور يقتضي الرجوع نحو مُكوِّنات المُجتمع: الفرد والأسرة، وفي هذا الصدد أكرِّر ما أعلنته مِراراً من ضرورة أن تَتَحوّل الأحزاب والجماعات الطائفيّة والدينيّة كالختميّة والأنصار والتيار الصوفي والسلفي والإخواني وغيرهم، أن تتحوّل إلى مجال الدعوة وإصلاح الفرد والأسرة والمُجتمع بما تمتلكه هذه الأحزاب والجماعات من رصيد المعرفة والفكر والتجربة، وسيكون هذا الجهد هو صمام أمان المُجتمع، ولن يثار بعد ذلك في مجتمعنا الحديث عن صراع اليمين واليسار، ولن يخاف الناس بعد ذلك على مكونهم الديني أن تحرفه أحزاب وسياسات الحكم، وإذا صح المُجتمع وقوي وتعاظمت قيمه فلا سبيل لإفساده بالسِّياسة أو الحكم، إذ التاريخ دائماً ما يُشير إلى غلبة رأي الشعب إذا صح منه العزم وقوي السبيل.
هذا التّحوُّل المُهم لهذه الأحزاب نحو تلك الوظيفة الرساليّة والرسوليّة، يعني أنّ المُجتمع سيشهد ازدهاراً عظيماً في التعلُّم والتربية، وستنشأ المُنظّمات المدنيّة ومراكز التّدريب ومَحاضن الطلبة ومُؤسّسات الفكر والبحث العلمي، وستخرج في غضون سنوات من المُجتمع قادة في الفكر والسياسة والأدب وشتى فنون الحياة، وهذا هو الدور الأعظم الذي لا يصح أن يُوكل إلى وزارتي التربية والتعليم العالي فقط، وهو الجهد المفقود اليوم في السودان بنسبةٍ كبيرةٍ.
المحور الثاني هو قيام منابر فكريّة للتداوُل الفكري السِّياسي من خلال نخبٍ سياسيّةٍ تفرزها تلك الأحزاب الطائفية وغيرها من الأحزاب السياسية الأخرى التي قامت على أساسٍ جهوي أو مناطقي أو غير ذلك من الأُسس غير السِّياسيَّة القومية، ومن خلال هذا المحور سنُحقِّق هدفين مُهمّين، الأول: هو تحويل الأحزاب الجهويّة إلى أجسامٍ قوميّةٍ وتفريغها من الشحنة الجهويّة المَوقوتة والخطيرة، وثانيها هو تكوين الرُّؤى السِّياسيَّة القوميّة التي يُعاد حولها هيكلة الأحزاب السِّياسيَّة، وهو الوضع الطبيعي لنشوء الأحزاب السِّياسيَّة، فالحزب السِّياسي يتكوّن ملتفاً حول فكرةٍ سياسيَّة فارقة، ولا تتكوّن الفكرة السِّياسيَّة من الحزب المُتكوِّن لهدفٍ آخر، فهذا يؤدي لمثل واقعنا السِّياسي المَأزوم اليوم الذي يتصدّر فيه المشهد السِّياسي أكثر من مئة حزب سياسي وليس هناك أكثر من رؤيتين سياسيتين يتشاركها كل هذا الكم من الأحزاب.
في هذا المحور ستتناقش الأحزاب حول الرؤى الصائبة لحُكم السُّودان، وستتكوّن ائتلافات حزبية بعدد تلك الرؤى، فإذا اتّفقت الأحزاب مثلاً على الرؤية (أ) والرؤية (ب) كأفضل فكرتين لحكم السُّودان، فهذا يعني أن تجتمع الأحزاب تحت مجموعتين فقط ويتم تداول الحكم بين المُجموعتين بحسب اللوائح الداخليّة لكل مجموعة، وبهذا سنتخلّص من العدد المُتعاظم والدور المُتصاغر لأكثر الأحزاب القائمة اليوم، وسنكون قد خَطونا إلى الأمام ألف خطوة كبيرة.. ولضمان هذه الخطوة يجب أن يكون من شُرُوط تسجيل أيِّ حزبٍ سياسي جديدٍ هو إتيانه برؤيةٍ سياسيّةٍ فارقةٍ وجديدةٍ وغير مكرورةٍ، وإلا فعليه الانضمام لأحد الكُتلتين في السَّاحة السِّياسيَّة.
المحور الثالث والأخير والذي يجب الفراغ من بنائه خلال الفترة الانتقاليّة هو إعادة صياغة المُؤسّسة التشريعيّة والرقابيّة، ويرتكز هذا المحور على تكريس فوقيّة السلطة التشريعيّة والرقابية وارتباطهما المباشر بالشعب، وعدم رضوخهما لمُؤسّسة الرئاسة ولا للجيش وعدم قابليتهما للإلغاء بقرارٍ من أحدهما، وعلى العاملين في المحور الأوّل بناء الصورة الذهنيّة النفسية في ضمير كلِّ فرد لفداحة جريمة حل السُّلطة التشريعيّة والرقابية أو التدخُّل فيها مهما كانت الظروف، وتظل هذه المُؤسّسة تُمارس حُكم السُّودان الفعلي بإرادة الشعب وبانتخابه، إنّ مُشكلة السُّودان السِّياسيَّة لن تُحل حتى يصبح حل السلطة التشريعيّة جريمةً لا يقبلها وجدان الناس، وهذا لا بُدّ أن يرتبط بالضرورة بأنّ تزوير إرادة الشعب في اختيار المجلس التشريعي أو مُمارسته جريمة أُخرى لا تقل بشاعةً عن حل المجلس.
في هذا المحور سيُصاغ الدستور الدائم للسُّودان، وستُحدّد آليات الانتخابات وآجالها وشُروطها، وستُنشأ مُؤسّسات رعاية الانتخابات كالمحكمة العليا أو الدستوريّة، ويجب أن تظل هذه المُؤسّسات رهينة بانتخاب الشعب دُون أيِّ تدخُّلٍ أو وصايةٍ أو تَعيينٍ.
هذه هي جُملة مطلوبات المرحلة الانتقاليّة، ومن غيرها سنكون إنّما نُكرِّر أخطاءنا كما التاريخ الذي يُكرِّر نفسه.
ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.