عفواً سادتيأيُّها العقلاء.. إلى متى؟

سامي أحمد الجعلي

شارك الخبر

مسيرة طويلة من الكفاح والدماء تَوّجها الشعب السوداني بانتصارٍ عظيمٍ على واحدٍ من أسوأ الأنظمة، إن لم يكن الأسوأ على الإطلاق في المَنطقة، بل والعَالم بأسرِهِ بثورةٍ عظيمةٍ ستظل علامةً في التاريخ الحديث تحكي عن عََظمة هذا الشعب الأبي.
لكن اليوم وبعد زهاء شهر من نجاح هذه الثورة، بدأ القلق يتسرّب إلى النفوس من المُماحكات السياسية والمُطاولات والشد والجذب.
هذا المشهد بكل أسفٍ يجر خلفه مُستقبلاً قاتماً، بل مُخيفاً إذا ما وضعنا في الاعتبار حالة الاحتقان الشديد الذي يكتنف المشهد والمُؤامرات التي تحاك ضد البلاد من الداخل أو الخارج ونحن في غفلتنا تائهون نتصارع حول المجلس السيادي والفترة الانتقالية والإعلان الدستوري …إلخ، فصار العنوان الأبرز هو الفوضى بكل أسف.
بالله عليكم ماذا ستستفيد القوى السياسية التي تصارع الآن في القُوّات المُسلّحة وإقصاء المجلس العسكري وتقزيمه من أجل مَكاسب حزبية ضَيِّقة.
أليست هذه هي القوات المُسلّحة التي كُنّا نَتُوق لأن تتدخّل وتحمي الثورة؟ أليست هذه المُؤسّسة العسكرية التي خالفت دستورها وانقلبت على قائدها المَخلوع وأدخلته السجن؟ أليست هذه المُؤسّسة العسكرية التي خالفت تعليمات الطاغية بقتل المُعتصمين كما أمر؟ أليست هذه المُؤسّسة العسكرية هي التي حَمَت المُعتصمين من كتائب الغل وقدّمت الشهداء في الاعتصام؟ أليست هذه المُؤسّسة العسكرية التي تحمي الحُدُود وتُقاتل في عدة جبهات لصون كرامة وعزّة هذه البلاد في ظُرُوفٍ قَاسيةٍ..؟
دُون شَكٍّ هذه ثورة شعب قدّم الدماء، ولكن لا يُمكن لعاقلٍ أن ينسى دَور الجيش في نجاح هذه الثورة، ولا يُمكن أن نفترض نهاية دَور القوات المُسلّحة الآن وتسليم السُّلطات كافّة لحكومة مدنيةٍ دُون دور للقوات المُسلّحة في الفترة الانتقالية لعدة أسباب.
أول هذه الأسباب أنّ وجود المُؤسّسة العسكرية على رأس السُّلطة هو الضامن الأساسي من أيِّ تفلتاتٍ يُمكن أن تحدث من فلول النظام السَّابق أو انقلابٍ مُضادٍ.
ثانياً: إنّ قوى إعلان الحُرية والتّغيير مُنقسمة على نفسها وليست لديها رؤية مُحدّدة والدليل ما صدر من قوى نداء السودان وعدد من الحلفاء.
لا شَكّ أنّ الاعتصام يؤدي حتى الآن أدواراً عظيمة في إزالة رموز النظام، بدءاً من ابن عوف، مُروراً بزين العابدين ورفاقه، وليس انتهاءً بالقبض على عديد من رُمُوز النّظام، على رأسهم المخلوع وزبانيته، وتَوجيه التُّهم رسمياً لهم في عَدَدٍ من القضايا وهذا أمرٌ مُهمٌ، ولكن إلى متى نظل في حَالة صراعًٍ وتَشَاكُسٍ؟ فما لا يدرك كله لا يترك جله.
قد يقول قائلٌ، الجيش ليس مُهمّته الحكم، وليس بالضرورة وجوده على رأس السلطة ليقوم بدوره في الأمن والدفاع.. والرد هنا ببساطة، إنّ حالة السيولة الأمنية وبقايا النظام السَّابق المُتربِّصة بالبلاد تتطلّب أقصى درجات الحَـذر، فَضْلاً على أنّ هذا الجيش رغماً عن التسييس لثلاثين عاماً، مازال هو المُؤسّسة القومية الأكبر في البلاد، ويتمتّع بقبولٍ من كل أطياف الشعب السوداني وهو ما لا يتوافر حتى الآن لأيِّ كيان سياسي.
من الأجدر أن نُركِّز على حكومة كفاءات كاملة الصلاحية تتطلّع بمسؤولياتها كافّة في الاقتصاد ومعاش الناس والعلاقات الخارجية، وإنهاء الدولة العميقة، وقبل كل ذلك القصاص لدماء الشهداء ومُحاسبة المُفسدين وإرجاع أموالنا المنهوبة، وهذه لعمري عملية تحتاج لصبرٍ وهُدوءٍ حتى تَعُود كل هذه الحقوق.
أمّا القُوى السِّياسيَّة فدورها الرئيسي هو تَشكيل مجلس تشريعي أو برلمان قوي يُراقب الحكومة، ويسن القوانين، ويجهز كل ما من شأنه إدارة انتخابات حرة ونزيهة لسودانٍ جديدٍ.
أمّا التّشاكُس حول المجلس العسكري وتقسيمه، فهو أمرٌ غريبٌ طالما اتّفقنا على أنّه سيقوم بدورٍ سيادي محدودٍ حسبما ورد في الإعلان الدستوري إذا سلمنا بأنّه مُتّفق حوله.
لديّ قناعة بأنّ بعض الجهات لديها مصلحة في حالة الاحتقان التي تُسيطر على المَشهد الآن، وأنّ الاعتصام صَارَ في حَدِّ ذاته هدفاً وليست وسيلة.. وذلك حتى تخلق حَالَةً من الفَوضى لتنقض على الثورة بانقلابٍ أو سفك دماء.
كما أنّ رفع سُقُوفات المطالب بهذا الشّكل سيجعل الشارع يرفض أيِّ حُلولٍ وسطى حال توصّلت إليها قوى الحرية مع المجلس العسكري، فنظل ندور في حَلقةٍ مُفرغةٍ.
انظروا حولكم إلى كم الأزمات التي تفتعلها الدولة العميقة بمُؤسّسات الدولة من نقصٍ مُتعمِّدٍ في الوقود والكهرباء والخُبز.. انظروا حولكم للتّخبُّط الذي يجتاح مُؤسّسات الدولة وهيمنة أذيال النظام على كَثيرٍ منها.. انظروا حولكم للجامعات ومُؤسّسات التّعليم العالي التي تَجَمّدَت لأشهرٍ حتى اختلطت الأعوام الدراسية ببعضها البعض.. انظروا حولكم لحالة الشلل التي تُصيب شوارع الخرطوم وتتعطّل معها مصالح البلاد والعباد.. انظروا حولكم لحالة الفوضى التي بدأت تَدُب والكل يَأخذ حقّه بيده دُون وازعٍ من قانونٍ أو سُلطةٍ!!
من يظن أنّه لا ضمان للمجلس السِّيادي لو كان غالبه من العسكر، أقول له الأمر بسيط، إذا تغول المجلس العسكري على سلطات الحكومة المدنية، فالشوارع لا تخون كما يقولون، والجيش نفسه يعلم أنّ هذا الجيل لن يقبل الخضوع بعد الآن.
لكن أرجوكم ضُعُوا الوطن نصب أعينكم الآن، فأذيال النظام تُرتِّب من أمرها والعُملاء ينشطون لهدم ما بنينا.. الوقت للعمل فلا تَتَصَارَعُوا وتتشاكَسُوا فتذهب مكاسبنا أدراج الرياح.
أرجوكم، أرجوكم، يا عُقلاء بلادي.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.