تراسيم ||عبدالباقي الظافر

الساعة السابعة بتوقيت الثورة..

شارك الخبر

حتى تلك اللحظة كان معالي الوزير يظن أن الأمر مجرد كابوس مزعج.. لم يتبين حقيقة الأمر إلا حينما صاح في وجه الصول بابكر وبلغة عسكرية حازمة ألا يغلق باب الزنزانة.. لم يأبه الصول لتلك التعليمات لكنه انتظر برهة قبل أن يغلق الباب.. التقت أعين معالي الوزير بالصول بابكر.. بدأت النظرات تحمل تحديا من الجانبين.. بعدها ارتخى بصر الوزير فيما يشبه التنازل.. تحولت مشاعر الصول إلى ما يشبه الإشفاق.. هكذا هي الدنيا.. قبل ساعات كان الوزير يملك كل شيء.. فيما ينتظر الصول حافز منتصف الشهر أو فقط أن يتذكره معالي الوزير.. بسرعة جذب الصول بابكر باب الزنزانة خاف أن تفلت مشاعره.
قبل عامين أصر بابكر أن يدخل لمعالي الوزير في مكتبه.. ترددت السكرتيرة الحسناء لأنها تعرف أن مزاج الوزير متعكر.. كان بابكر يرفض الترقية إلى رتبة الصول.. ذلك الترفيع يمنعه من مصاحبة الوزير في حله وترحاله باعتباره سائق الدراجة البخارية التي تتقدم موكب الوزير في حركته في شوارع المدينة.. أن تكون جزءا من موكب الوزير ليس أمرا يسيرا.. فيه منافع كثيرة وعلو في المقام بين الناس.. في النهاية رفضت السكرتيرة السماح لعم بابكر بالدخول.. انتظر الرجل صاحب الجذور الريفية خروج الوزير.. كان يرجح أن الإلفة ستلعب دورا.. على العموم لم يكن عند الصول ما يخسره.. فقد رفض أن يسلم مفتاح (الموتر) للقادم الجديد.
حينما لمح عم بابكر سكرتير الوزير عبد المنعم مهرولا أدرك أن الموكب العظيم قد تحرك.. حرك الرقيب الذي يرفض أن يكون مساعدا بصره ليحدد ميدان المنازلة.. من الأفضل أن يبتدر الحديث مع الوزير في المسافة القصيرة ما بين المكتب والعربة المتأهبة للحركة.. قبل أن يكمل رسم الخطة لمح عم بابكر الوزير فهرول نحوه.. ضرب الأرض بقوة وهو يبذل التحية العسكرية.. أدرك الوزير أن وراء التحية الثمينة طلبا ثقيلا.. لكن السكرتير عبد المنعم لم يمنح الوزير سانحة إرهاق الذهن.. قبل أن يسرد عم بابكر مظلمته.. كان السكرتير ينقل لمعالي الوزير أن عم بابكر رفض تسليم عهدته ومن ثم الانتقال للعمل في شرطة سجن كوبر.
حاول عم بابكر إنقاذ الموقف ليذكر الوزير عن ارتباطه به وأسرته خلال ستة أعوام.. أراد أن يقول إنه لم يكن يعرف متى يبدأ دوامه أو حتى كيف ينتهي.. تلعثم عم بابكر.. سدت العبرة مخارج صوته.. نزلت الدموع دون استئذان.. رمقه الوزير بنظرة قاسية.. سأله: أين المفتاح؟.. كان المفتاح حاصرا بين الأيدي المرتجفة.. استلم الوزير المفتاح في ما يشبه إنهاء المهمة وسلمه لسكرتيرة.. كان وقتها الموكب انتهى عند السيارة البيضاء الفارهة.. كانت آخر جملة من معالي الوزير: “خلاص بكرة إن شاء الله ح أتكلم مع مدير الشرطة في الموضوع دا”.
تحركت عربة الوزير يسبقها الموتر بسائقه الجديد.. شعر عم بابكر أن عمره قد ازداد عشر سنوات في تلك اللحظات.. لم تقوَ أقدامه في حمل جسده النحيل.. جلس على أقرب مقعد.. كان يدرك تماما أنه لن يلتقي الوزير مجددا.. ذات التكتيك كان يستخدمه الوزير مع الضيوف الثقلاء.. حينما يمنحهم رقم هاتف بابكر باعتباره أقرب مساعديه ويوجهه بتسهيل مقابلتهم له في المكتب في التالي.. لكن ذاك اليوم لم يأتِ أبدا.. كان الهاجس الثاني كيف سيعود عم بابكر إلى بيته في حي الحلفايا دون دابته والتي جعلته علما بين الناس.
مضت نحو تسعة أشهر.. تحولت مشاعر بابكر من مؤيد للحكومة لواحد من أبرز منتقديها.. كان كلما يصل سجن كوبر يساوره إحساس بأن الأحوال في السودان مقلوبة.. الشرفاء في السجون واللصوص في دواوين الحكومة.. يتألم حينما يتذكر أنه كان يقود الموتر في ليالي الخرطوم لأن زوجة الوزير تريد أن تشارك في مناسبة اجتماعية في صالة الأحلام.. لكن السيدة تفضل أن يسبقها (الموتر) لا ليفتح الطريق بل ليعلم الجميع أن زوجة الوزيرة وصلت المحفل.. وقتها كان يفعل ذلك بكثير من السرور.
في يوم الخميس الحادي عشر من أبريل كان الصول بابكر يخطط لأن يذهب لمشفى الشرطة.. حينما استمع للبيان الأول غير رأيه.. مضى إلى سجن كوبر.. أراد أن يقابل معالي الوزير ليقول له: الأيام بيننا.. انتظر أمام البواب الرئيسية.. كلما جاء فوج من المعتقلين كان يتفحصهم.. ابتسم الوزير حينما رأى الصول بابكر.. حسب أن الحظ سانده هذه المرة.. لم يتذكر دموع الصول ولا أياديه المرتجفة ولا وعد الاتصال بمدير الشرطة.. كان ينظر إلى الجانب الآخر.. الحافز الذي يتكرم به.. بعض بقايا الطعام الذي تقدمه زوجته لطاقم الحراسة بعد يوم عمل طويل.. ابتسم الوزير فيما عبس الصول وهو يجذب معالي الوزير ويقوده إلى الزنزانة التي حملت الرقم (١٨٧).

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.