تراسيم||عبدالباقي الظافر

أريد أن أفرح…!!

شارك الخبر

فتحت ابتسام النافذة التي تطل على الساحة الشرقية حيث موقف السيارات.. أرادت أن تودع حبيب عمرها.. كان خالد يمضي نحو العربة وآثار الزمن وضعت آثارها على هيئته العامة.. ميلان طفيف نحو الشق الأيمن مع انحناءة تتناسب مع رجل في الثانية والستين من العمر.. شعره الأشيب يمنحه بعض الوقار.. ابتسمت ابتسام وهي تسأل نفسها لماذا صمد حبها لهذا الشيخ ثلاثة عقود أو يزيد.. شعرت لبعض الوقت أنها تهورت حينما وقفت ضد كل أسرتها وطلبت يد الرجل الذي طلبها وهي في عمر الزهور.. رنت في أذنها كلمات ابنها الطبيب رامي “لو سألتني لميس بنتي أقول ليها حبوبة عروس”.. كان صدى الاستجابة أن هربت من النافذة إلى حيث (المرايا).. تحسست شعرها المنظوم بعناية.. لمست أطراف وجهها.. شعرت أنها مازالت شابة رغم أنها تجاوزت الخمسين عاماً.
دون مقدمات سالت دموعها.. مع زحف الدموع انهارت متاريس المكياج.. هربت نحو الفراش غطت وجهها بغطاء حريري الملمس.. تذكرت تلك الأمسية في حفل زواج ابن عمتها.. كانت للتو في السنة الثانية بالمدرسة الثانوية.. شعرت من دون مقدمات أن عازف الكمنجة يغني لها.. كانت عيونه تلاحقها وهي ترقص.. تتبعها حينما ترتاح على الكرسي.. حينما التقت الأعين ابتسم لها تلك الابتسامة التي ظلت محفورة في ذاكرتها.. مع نهاية الحفل هبط صاحب الكمنجة إلى حيث أسرتها.. كان يحمل آلته بيده اليسرى ويحييهم بيمناه.. لم يهتم أحد ظنوا أن الأمر محض صدفة جعلتهم في مسار حركة الموسيقار.
ارتجفت حينما رأته ينتظرها عند باب المدرسة.. حاولت أن تسرع في خطواتها حتى تهرب من الحصار الجميل.. لم تتمكن في ذلك العمر من الموازنة بين العاطفة والخوف من الغريب.. كان سرب الطالبات يتناقص مع كل لفة شارع.. حينما أصبحت وحيدة تجرأت والتفت ووجدت صاحب الكمنجة من ورائها.. دون تردد دس في يدها خطاباً.. لم تتمكن من العصيان.. خبأت الظرف في حقيبتها الممتلئة بالكتب.. حين وصلت إلى البيت أخرجت المظروف وخبأته مرة أخرى قريباً من قلبها.. دخلت إلى الحمام.. المكان الوحيد الذي لن يزاحمها فيه أحد.. كلمات رقيقة من رجل لا تتذكر غير ابتسامته الجذابة في ذاك الاحتفال الصاخب.
بدأت تتبادل معه الرسائل بذات الطريقة.. في أحيان كثيرة يرمي الخطاب في طريقها.. في ذات يوم اكتشف شقيقها الحب المستتر.. كانت الجريمة مزدوجة التواصل مع غريب ثم الأنكى أنه بتاع (مزيكا).. ضربها صالح ضرباً مبرحاً.. كان الأب يشد من أزر ابنه في مهمته التأديبية.. فيما مضت حاجة سكينة في ترتيبات المستقبل.. اتخذت قراراً أن تزوج ابتسام قبل أن تقع كارثة.. من حسن الحظ أن العريس كان في الانتظار.. أحد أبناء عمومة الأم من المغتربين في الكويت.. حينما توجهت زميلات ابتسام إلى الامتحان كانت هي عروس تكتشف عالماً جديداً.
بعد ثلاث سنوات عادت إلى بلدها إثر غزو صدام حسين للكويت.. كان معها ابنها رامي وابنتها رانية.. زوجها لم يبتلع صدمة الخروج من الكويت بشبشب الحمام.. كان مثل سمكة خرجت من الماء.. أو وردة وضعت في إناء من ماء.. بعد عامين توفي نصر الدين التوم.. كان حزن ابتسام غريباً.. أقرب إلى الخوف من المجهول.. انكفأت على أسرتها الصغيرة بعد أن قسمت المسكن إلى جزأين.. نصف للسكن وآخر كمصدر رزق.. بعد عام أو اثنين فوجئت بفتاها يتحدث في التليفزيون.. صاحب الكمنجة حضر درجة الدكتوراه في روسيا.. بات أستاذاً في كلية الموسيقى.. أغلقت التلفاز حينما شعرت بذات الشعور الذي داهمها وهي تطالع خطابه الأول.
مرت سنوات وأخرى وهي تتابع دكتور خالد من على البعد.. في لقاء مع صحيفة الدار اعترف أنه لم يتزوج لأنه فقد حبيبته منذ ثلاثين عاماً.. كانت تدرك أنها الحبيبة المعنية.. لم تتجرأ لتقول له إنها هنا.. تزوج رامي دون أن يشركها في اختيار رفيقة عمره.. ذات المفاجأة حدثت لها بعد شهور حينما أخبرتها رانية أنها ارتبطت بزميلها في شركة الهاتف السيار.. في غضون ثلاثة أعوام باتت وحيدة في منزل بات متسعاً.. قررت أن تنتفض.. ذهبت إلى دكتور خالد ذات مساء في نادي الفنانين.. كان يجلس وحيداً يحتسي فنجان قهوة.. على الطاولة استراحت الكمنجة.. حينما ألقت عليه التحية ابتسم ورد أخيراً عادت ابتسام.. جلست على حافة الكرسي وقالت له أريد أن أفرح.. مد يده ذات الملمس الخشن ومسح على كفها بحنان.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.