اقاصي الدنيا…. محمد محمد خير

عرمان في نسخته الجديدة

عرمان في نسخته الجديدة

في أواخر العام 1983 قلت للراحل الأستاذ التجاني الطيب، وكنت حينها دون الثلاثين، إن هذا (الولد) سيكون له شأن في السياسة السودانية، وكان الولد المعني هو ياسر عرمان، وكان المكان سجن كوبر حيث التقيت ياسر لعامين .
كان ناشطا في جمعية القراءة، وكنا نسهر الليل أنا وهو والأستاذ الضو أحمد بابكر، وكان للسجن مكتبة كبيرة يتبرع بها المعتقلون تشمل أجناس المعرفة كافة. أجزم أنه أجهز على كل تلك الكتب، وكان متفطنا في نقاشاته حولها ثم امتدت صلتنا حتى أصبحت صلة أسرية، وتجددت في القاهرة أيام توليه مكتب الحركة فيها مع ادوارد لينو ودانيال كودي.
ثم جمعتنا أيام ما بعد نيفاشا في أبوجا لأكثر من عام. أعرفه كما أعرف الأبجدية زاهدا ومتوقدا وطموحا، وكتبت ذلك في هذه الصحيفة في عز هجيره المتوقد مع الإنقاذ إنصافا لحقيقة ما ترسب في عقلي من معاشرته في أزمنة وظروف تختلف جواهرها وأمكنتها. السجن والفتيحاب والقاهرة وأبوجا والخل الوفي.
ونقدته أيضا في هذه الصحيفة لأنه كان يتعامل مع حلمه كحقيقة دون أن يجرح ذلك علاقتنا الأخوية، ويريق دمها الغالي.
عاد ياسر أول من أمس في ظرف بالغ التعقيد، صار الاتهام فيه بالخيانة أسرع من الضوْء، وبلغ فيه التوتر أقصى مداه وامتدت ظلال الشكوك بلا أفق ولا مدى وتمدد التجريم بلا شواطئ.
عاد ياسر هذه المرة بلا باقان ولا لينو ودانيال كودي رفيق غربته القاهرية في ضفة أخرى، والحلو شريكه في الزهد وطباع الثوريين النقية في مخيم الغموض، ومحمد يوسف في خانة العدو، والسر مكي قد مات. عاد بلا أزيز ولا رزيم ولا (ويييييي) لكنه عاد بمخزون تجربة و(مطامير) وتراكمات؛ فخطوة الشمس واسعة وأوسع منها غيوم التجارب في القلب.
عاد ياسر وقد اختلت موازين المعادلات القديمة ببروز الشباب كفاعلية صلبة تقدم أوراق اعتمادها للحياة السياسية، وانتضت قوة عسكرية ماضية شعارها (زمن الغتغيت انتهى) .
كل شيء تبدل، فلا الناس بالناس الذين عرفتهم، ولا الدار بالدار التي هي تعهد.
من هنا يجب أن تحدق في هذه الشمس الجديدة بأجفان مفتوحة، وتستدعي ما تراكم من خبرات السنين وتمزج عطر علي عبد اللطيف برائحة روجرز ونتر وتشتعل تغني لنا.
أنت مطالب في هذه المباراة المصيرية بالالتزام بمهمة لاعب الارتكاز الذي يقطع كرات الخصم الخطيرة ويوزع الباصات كالزكاة.
ومطالب بإنتاج خطاب مغاير ومقبول بإعلاء العقل وزجر الهتاف.
الهتاف قرين المراهقة وعدو الفكر النير وسلاح المهزوم والذي يتبني فكرة مراهقة ويسير بها نحو شمس غاربة سيظل مراهقا إلى الأبد.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.