فنانون ومواقف … الشاعرالصادق إلياس وحكاية ملام

بقلم: سعيد عباس

نجتر الذكريات ونغوص في بحور الوجد والشجن مع أحد عمالقة الشعر الغنائي السوداني مع شاعرنا الكبير الصادق إلياس الذي يعتبر أحد أعمدة وركائز الغناء السوداني لما قدمه من أعمال ساهمت كثيراً في تشكيل وجدان الشعب السوداني. فالصادق إلياس بقدر ماهو شاعر مجيد في الشعرأيضاً هو خطيب ومتحدث لبغ يستطيع أن يجذب وباهتمام كبير أحاسيس كل من يستمع إليه فهو من القلائل الذين يستطيعون توظيف النكتة والطرفة توظيفاً بلاغياً يخدم به محاور حديثه بصورة سلسة وجاذبة.وكان في إحدى المناسبات قد طلب منه الدكتور عبد القادر سالم نظم أغنية جديدة فقال عبدالقادر (عايز لي حاجة كدا تشبهني )، فرد الصادق إلياس بسرعة بديهته المعهودة قائلاً (يعني عايزة طويلة وزرقه).

يعتبر الصادق محطة ثابتة ورقماً لا يمكن تجاوزه في تجربة الفنان الراحل أحمد الجابري رغم أنه كتب لعدد من الفنانين منهم (صلاح بن البادية في (أعمل أيه ما الباقي باقي )، وزكي عبدالكريم (إنت يابسام)، والأمين عبد الغفار (قصة الشوق ياحيارى)، ومصطفى سيد أحمد(فرح الغلابة)، واللحو(التوب)، وكثير من الأعمال الرائعة للجابري منها (الجريف واللوبيا ومن طرف الحبيب وحكاية ملام …إلخ). فقد كانت كلمات الصادق إلياس تعكس أشجان وأحزان ومشكلات المجتمع الذي يعيش فيه فهو رجل قادر علي تصوير أحاسيس الغير لدرجة التغمس خاصة عندما أخرج الجابري من حزنه وألمه علي فراق والدته التي كان يحبها حباً جما ورفض الجابري العودة إلى الغناء نهائياً، ويرجع ذلك إلى أن الجابري كان ممارضاً لوالدته لفترة طويلة وجاء إليه أحد الأشخاص بغرض إحياء حفل زواج فرفض ولكن إخوانه وأصدقاءه أصروا عليه على أن يذهب فلبى الجابري طلبهم ولكنه تفاجأ بعد انتهائه من الحفل بوجود صيوان عزاء بمنزلهم يعلن وفاة والدته ليدخل الجابري في صدمة حزن عنيفة لأكثر من عامين أوقف فيها الفن والغناء حيث كان يقضي جل وقته بمقابر البكري بجوار قبر والدته، شاعرنا الصادق إلياس استطاع أن يغوص داخل أحزان الجابري ويتعمق في آلامه ويترجم ذلك شعراًً في رائعته (حكاية ملام) التي استطاع من خلالها أن يقنع الجابري بالعدول عن رأيه والعودة إلى عوالم الفن خصوصاً أن القصيدة تلمس بشكل مباشر أوتار الحس الداخلي للجابري تجاه مصيبته، فوافق وقال الجابري هذه الأبيات التي كنت أبحث عنها خصوصاً عندما بدأت القصيدة، وهي تقول: 
(أخت اللّوم علي نفسي
و لا اتحسر على عمري
ولاّ اكوس مكاني الراح
مع الغائبين فضل يجري..
اخت اللوم علىي نفسي
و أرجع أقول أنا الغلطان..)
ويتصاعد الحزن بصوت الجابري بصورة مؤلمة خصوصاً عندما يأتي في الوصلة التي يغني فيها
(لقيت جا عصار غشا البلدات
و عاد كيفن الاحق الفات
و الاحق الريح وقت يجري..
حكايتي مع الملام طالت..)
ولكن إذا حاولنا أن نسترسل في مواضع البلاغة وتصوير الحزن معاً نجد أن القصيدة بأكملها تستحق أن تُدرج في هذه المساحة المحدودة والجابري يجعل من الحزن سيداً للموقف عندما يقول:
(فقِد محبوب علي مكتوب
اقش في دمعي ما اتجفف..)
وبعد ذلك بدأ الصادق والجابري يناجيان نفسيهما بموضوعية عاطفية علها تكون بلسماً يهدهد بعض أوجاع الدواخل في هذا المقطع:
(يا ريت اللوم يرجعني
و يرجع حالي لي حالو
و ألم الباقي من عمري
و أجيب البال من الشالو..)
أخذ الجابري هذه الأغنية وذهب بها إلى الإذاعة التي وجدها في أشد الشوق إليه وغناها كما لم يغنِ من قبل فشكلت الأغنية انقلاباً إبداعياً بالوسط الفني ولكن الجابري لم يعش طويلاً بعد هذه الأغنية وبعد عامين أوأقل من ثلاثة فارق الجابري الحياة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.