أنطون جورج أنطون طباخ – محامٍ وخبير قانون

الاتفاق السِّياسي.. مصادرة للإرادة الشعبية ومُرتأيات للنُّخب إمعاناً في زيادة مُعاناة الوطن والشعب

شارك الخبر
  • إنّ حق الشعوب في تقرير أنظمة الحكم في بلدانها؛ إنما هو حقٌ خالصٌ لها، ومكفولٌ بمُوجب العُهُود والمَواثيق الدولية، وبمُوجب المبادئ الدستورية المُترسِّخة في الوجدان الإنساني المُتعلِّق بهذا الشأن، والتي تمنح الشعوب حقاً وجوبياً لازماً؛ في أن تُستفتى على ما يتم إعداده من وثائق تُحدِّد أنظمة حكمٍ بعينها لبلدانها، وتمنحها كذلك حريةً كاملةً في الاختيار؛ ما بين القبول والرفض لتلك الوثائق، وذلك عبر ما أصبح معروفًا بـ(الاستفتاء) في غالبية دول العالم إن لم تكن كلها – وبالتالي يثبت وفي جلاءٍ تامٍ؛ أنّ ما يقوم به كل من المدنيين والعسكر في الساحة السياسية، إنّما هو عَملٌ تختص به جهة مكلفة بوضع مسودةٍ لوثيقة الدستور – لأنّ الدستور وحده ودُون غيره أيّاً كان ذلك الغير؛ هو الذي يُحدِّد نظام الحكم في الدولة – ومن ثم يكون من الواضح للعيان؛ أن الاتّفاق السياسي الذي تم بين المدنيين والعسكر، قد تَغَّوَلَ على حق الشعب السوداني في تقرير نظام الحكم لبلاده، بل إنّه قد صادر ذلك الحق وبالكامل، حيث ذكر ذلك الاتّفاق السِّياسي صراحةً، بأنّه قد تم اعتماد النظام البرلماني؛ كنظامٍ لحكم السودان خلال المُدّة الانتقالية – ألا يُعدُّ ذلك مُصادرةً لإرادة الشعب السوداني العظيم (أعظم شعب وأعظم جيل)؟
  • فلطالما كان نظام الحكم في الدولة؛ لا يتم تحديده إلا عن طريق دَستورٍ، ولطالما كان الدستور لا يصبح دستوراً؛ إلا بعد استفتاء الشعب عليه، ليقرِّر هو (أي الشعب دون غيره وعبر الاستفتاء) رفضه أو قُبُوله للوثيقة التي تُحدّد له نظام حكمٍ بعينه، فلا شك أنّ ما تمّ من اتفاقٍ بين المدنيين والعسكر؛ إنما هو في حقيقته مُصادرة لإرادة الشعب – فالاتّفاق السِّياسي ورغم اشتماله على تحديد نظامٍ بعينه للحُكم خلال المدة الانتقالية؛ إلا أنه سيمضي هكذا في طريقه للتنفيذ إن استطاع لذلك سبيلاً، ودُون الرُّجوع للشعب صاحب القَول الفَصل؛ ليقول قولته بالرفض أو القبول – أضف إلى ذلك أنّ نظام الحكم البرلماني؛ قد أثبت فشله في السودان ولثلاث مراتٍ، فلماذا نُجَرِّبه مَرّةً أُخرى لنلدغ من جحره مرةً رابعةً؛ وهو المُجَّرَبْ الذي أحلّ بنا الندامة من إعادة تجريبه من قبل، ما يثير شُكُوكَاً كثيفة؛ حول تَعَمُدنا الإضرار بالسودان (من جرَّبَ المُجَرَبْ حلَّتْ به الندامة).
  • ونجد لزوماً هنا؛ أن نذكر شيئاً عن المبادئ الدستورية والقانونية – فنقول:
    (إنّ المبادئ الدستورية والقانونية؛ إنّما هي في الأصل ما يعتمل ويَتَرسّخ في الضمير والوجدان الإنساني، وبحيث تنبع من استلهام ما يجب أن تكون عليه وعادةً؛ أمور بعينها، ووفق مُقتضيات المَجرى الذي يتّفق مع تَقَبُّلِ العقل له؛ وفي سلاسةٍ مُتناغمةٍ مع الحُرية والعَدل، وبما يتمخّض عنه وجوباً؛ إقرار حكمٍ بعينه يَصْحُب دائماً تحقق وجود تلك الأمور – ومن ثَمّ فإنّ المبادئ الدّستورية والقانونيّة, تجد طريقها مُعَّبَداً تطبيقاً وتنفيذاً من جانب القضاء عُمُوماً؛ ومن سائر الأجهزة العدلية – ولا يقف عائقاً في طريقها؛ أن المُشرّع (الدستوري أو القانوني) وفي مَسألةٍ بعينها، لم يُضَمِّن ما تشمله تلك المسألة من مبادئ في نُصُوصٍ دستوريةٍ أو قانونيةٍ مكتوبةٍ – بل إنّه وفي حال تعارُض نصٍ مكتوبٍ مع أحد المبادئ المتعلقة بما يحويه ذلك النص، فإنّ ما يقضي به المبدأ هو الذي يَسُود؛ ويكون له الأولوية في التطبيق والتنفيذ …إلخ).
  • نتطرّق بعد ذلك لشيءٍ من تَفَرُّدات نُخَبِنا السياسية – فنقول: لقد كان سوداننا العظيم وفي ظل ديمقراطيتيه الأولى والثانية ؛ كان اسمه “جمهورية السودان”، وعندما قام المرحوم جعفر نميري بانقلابه العسكري – مايو 1969م – والذي استولى فيه على السلطة من حكومة منتخبة ديمقراطياً، أول ما فعله هو تشكيل مجلسٍ لما أسماه “مجلس قيادة الثورة” – وهكذا فعل “البشير” أيضاً في يونيو 1989م – ثم قام “نميري” بتعديل اسم “جمهورية السودان” إلى إسم “جمهورية السودان الديمقراطية” ، وعندما تم إسقاط حكم “نميري” – انتفاضة مارس – أبريل 1985م – وقد كانت ثورة شعبية مُشابهة لثورتنا المجيدة هذه – والتي نعيش اليوم ثنائية درامياتها وتراجيدياتها (أحزانها المَأساويّة) – فأول ما فعلته الحكومة المُنتخبة ديمقراطيّاً حينها؛ هو إلغاء تسمية “جمهورية السُّودان الديمقراطية” وإعادة تسميته “جمهورية السودان” – الخلاصة هي أنّنا قد تَفرَّدْنا بتسمية الأشياء بغير مُسمّياتها الحَقيقيّة، فعندما كان السُّودان يتمتّع بحكمٍ ديمقراطي؛ لم يكن اسمه مُضافَاً إليه كلمة “ديمقراطية”، وعندما كان السودان محكوماً بالديكتاتورية؛ أضفنا إلى اسمه كلمة “ديمقراطية”، بل وعند استعادتنا للديمقراطية؛ قُمنا بإلغاء كلمة “ديمقراطية” – والآن وعند انتصار ثورتنا المجيدة؛ باقتلاع نظام حكم الإنقاذ وتعطيل دستوره الانتقالي لسنة 2005م – فبدلاً من أن نَشْرع وفوراً؛ في إنشاء وتكوين مجلسٍ لقيادة الثورة – وهي هنا ثورة شَعبية حَقيقيّة؛ وليست انقلاباً عسكرياً مثل انقلابي “نميري” و”البشير” – بدلاً من ذلك فإذا بنا نُهدر الوقت في التّفَاوُض؛ ونُطيل في أمده وفيما لا طائل من ورائه، بل وبما يُخالف أُسس ومبادئ التّأسيس السليم للحكم في الدولة؛ ما يجعل التهديد بانهيار أيِّ اتفاقٍ قد يتم؛ مُستمراً دونما حامٍ له – تماماً مثل ما حدث مؤخراً؛ حيث خرج علينا السيد رئيس المجلس العسكري، مُعلناً إلغاء كل ما تَمّ التّوصُّل إليه مع المدنيين (قحت) – الشيء الذي يُؤدِّي لتأجيج التّذمُّر والغضب الشعبي، وحينها فشبابنا هم وحدهم مَن يَدفعون الثّمن؛ دماءً ذكيةً وأرواحاً طاهرةً – ونحن من جانبنا نكرِّر هنا مرةً أخرى – أنّه ولما كان التأسيس السَّليم لبناء البيت؛ هو الذي يضمن بقاءه ويحميه من الانهيار، فكذلك هو الحال في التّأسيس السَّليم للحكم في الدولة، فحيث كان تَأسيس الحكم في الدولة سليماً صَحيحاً ومُتّفقاً مع العُلُوم القَانُونيّة، كان ذلك هو الضَمانة لبقاء الحكم صَامِدَاً ومَحمياً من الانهيار.
  • إنّ كل ما هو مَطلوبٌ في هذه المرحلة الثورية؛ والتي يسند الدولة خلالها مبدأ الشّرعية الثّورية، هو فقط إنشاء وتشكيل مجلس لقيادة الثورة الشعبية الحَقيقيّة – فهو وحده الذي يحمي الثورة وخُططها – ومن ثَمّ السير بها قُدُماً لتحقيق غاياتها وتطلُّعات شعبها؛ وآمال شبابها مُفجِّر الثورة الحقيقي – وكل شيءٍ بعد ذلك يتم فقط عبر ذلك المجلس القيادي للثورة المجيدة، فهو الذي يختص بإنشاء وتكوين أيّة هيئات أو مُؤسّسات يرى ضرورتها، بالإضافة إلى مُصادقته على إنشاء وتكوين سلطات الدولة الثلاث: التشريعية؛ التنفيذية والقضائية بشقيها (العادي والدستوري) – كما وتكون للمجلس سلطة الفصل فيما بينها جميعاً؛ في حال حدوث أي خلاف أو تَدَاخُل للسلطات والاختصاصات – وكل ذلك قد أوضحناه وبالتفصيل في مقالاتنا السابقة – فإذا تَمّ كل ذلك في إطار ما قلنا به من مجلسٍ قيادي للثورة؛ ووفق التّصوُّر المَطروح له من شَكلٍ ومَضمون، فسيتولّد عن ذلك وبالتأكيد تفاعل ديناميكي بين المدنيين والعسكر؛ تسوده ثقةً عالية واحتراماً رفيعاً مُتبادلاً، وفوق كل ذلك تكون الروح الوطنية الصادقة؛ والتي تَعتمل وبقُوةٍ في صُدُور السُّودانيين، تكون قد فرضت وجودها القدسي؛ ما ينعكس إيجاباً في جميع أعمال المجلس القيادي، وبما يُصبُ مُسرعاً في صالح الوطن الصبور النّازف؛ والشعب المُتَلَهِّف لساعفٍ، ليكون برداً وسلاماً على كليهما.
  • وفي إطار سَعينا الدؤوب لوضع الأُمور في نصابها الصحيح؛ نصرةً وانتصاراً لوطننا العظيم، فقد التقينا بالعديد من القَانونيين الأفَاضل في بِلادنا الحَبيبة، وقد أفادوا بأنّ الدستور يجب أن يتم وضعه بواسطة حكومة مُنتخبة – ونحن من جانبنا – ودون الخَوض فيمن أوجب ذلك الزعم، واستناداً على أنّ لكلٍ منا حريته في أن يأخذ بما هو موجود من فقهٍ في مسألةٍ بعينها، أو أن يأتي هو بما يراه أكثر مُلاءمةً بالنسبة لظُروف مَكانٍ وزَمانٍ بعينيهما في تلك المسألة – وحُريتنا هنا لا تخرج عن الأصول والأُسس والمبادئ ذات الشأن، بل هي تتّسق تماماً وتتناغَم وفي سلاسةٍ مع كل ذلك – ومن ثَمّ فلا بُدّ وأن نُذكِّر أولاً؛ بأنّنا وفي ظِل ذلك الفقه (الدستور تضعه حكومةٌ مُنتخبةٌ) – مزعوماً كان أم غير صالح – في ظله قد ثَبَتَ فَشلنا الذريع في الخروج بدستورٍ مُستدامٍ لسُوداننا الحبيب؛ ولثلاث مراتٍ من الديمقراطية التي عاشها السودان – إذن فلا بُدّ من التفكير الجَاد والعَميق؛ في فقهٍ يتناسب إيجاباً مع الشّأن الآني والخاص بالدولة السودانية (العُظمى بمشيئة الله تعالى)، وهنا لا بُدّ وأن نُذكّر ثانياً؛ بما يتمتّع به السودان من تنوُّعٍ فريدٍ من القبائل والأجناس والأعراق والديانات، وما يتفرّد به من ثقافاتٍ وعاداتٍ وتقاليد ولغاتٍ ولهجاتٍ محليةٍ، كل ذلك قد تمازج وتعايش جنباً إلى جنبٍ وفي بوتقةٍ واحدة تَخلَقَ وتَشكّلَ منها سُوداننا الجميل، والذي يسري حُبّه في وجدان كل سُوداني وسُودانية.
  • إذن ومن خلال تلكم الصورة الغنية لسُوداننا الحبيب؛ وذلكم التّنوُّع الثّري والفَريد، وحيث أنّ السودان يعيش ثورةً شعبيةً مُتَفَرِّدة كتفَرُّده في كل شيءٍ، وهو اليوم وفي ظل حالته الثورية؛ يُحكم بموجب مبدأ الشرعية الثورية، لا بُدّ وأن نأتي لأنفسنا بمفاهيم من واقعنا السُّوداني الأصيل، لنستصحبها معنا لوضع الأُسس التي تفضي بنا لدستورٍ مُستدامٍ؛ يُرضي كل طموحات وتَطلُّعات وآمال الشّعب السُّوداني الفريد والمُتفَرِّد – فنقول: بما أن الحالة الثورية للدولة مؤقتة؛ ومهمتها الأساسية هي الانتقال بالدولة من المرحلة الثورية إلى المرحلة الدستورية، إذن يكون من الواضح اتّساق قَولنا بوجوب بُرُوز الدّستور المُستدام للدولة خلال مَرحلتها الثّورية الانتقالية؛ وتحديداً في خواتيم تلك المرحلة، كما أنّ ذلك يتناغم مع المَعنى اللفظي لكلمة “انتقالية”، فالانتقال يعني الحركة وصولاً لنقطةٍ بعينها (المرحلة الدستورية)، كما أنّ مقولة (الدستور يتم وضعه بواسطة حكومة مُنتخبة)؛ تصطدم بمنطق الأشياء، إذ أولاً ما هو شكل تلك الحكومة؟ أهي حكومة برلمانية أم رئاسية؟ وثانياً من ذا الذي وضع لها هذا الشكل أم ذاك؟ وبمُوجب أيِّ سُلطةٍ فعل ذلك؟ وثالثاً إنّ الانتخابات يجب أن تتم لشغل مناصب مُحَدّدَة لنظام حكمٍ بعينه، وكما أسلفنا فإنّ نظام الحكم في الدولة لا يتم تحديده إلا بمُوجب دستورٍ، لتتم الانتخابات على ضوء نظام الحكم الذي حَدّدَهُ ذلك الدستور – يا لها من مِحنةٍ نزعمها أو نصنعها بأيدينا لتُدخلنا في مَتَاهَة البيضة أم الدجاجة أولاً.
  • ومن خلال ما ذكرناه يثبت فساد مقولة إنّ الدستور يتم وضعه بواسطة حُكومة مُنتخبة، كما تثبت ضرورة أن يتم وضع الدستور في خواتيم المرحلة الثورية الانتقالية، والتي تسمح للسودانيين جميعاً بالمُشاركة والإسهام وبروحٍ وطنيةٍ عاليةٍ؛ في وضع دستور بلدهم العظيم، ودُون أن يكون لفئةٍ بعينها من ذلك المجتمع الغني بالتنوُّع في مُختلف المجالات – الهيمنة والتأثير السلبي الذي لا يَحْسَبُ للآخر حساباً – ومن ثَمّ يكون هنالك تَعاضُدٌ وتَكاتُفٌ بين مختلف مُكوِّنات مُجتمع الشعب السوداني؛ التي توحّدت في وطنٍ واحدٍ، ما يجعل من الشعب السوداني كله؛ حامياً لدستور بلاده الذي ساهم جميع السودانيين في وضعه، وما ينعكس إيجاباً على الشفافية في حكم البلاد والعباد منذ الوهلة الأولى، بدلاً من الضبابية التي ظَلّت وفي مُختلف الحقب؛ مُستأسدةً على عرش السِّياسة السُّودانية – ولا بُدّ من التّذكير أنّ (مُتطلبات اليوم وظُرُوف عَجُولِه؛ لا يسعفها فقه الأمس وحُلولِه).
  • وفي الختام لا بُدّ من كلمةٍ لأهل السِّياسة؛ وللقائمين على أمر هذا البلد – هنالك من يقول إنّ السِّياسة هي فن المُمكن، وهو تعريفٌ يحتاج في ذاته لتعريف، ولكنا نقول إنّ السياسة هي تسيير الأمور في جميع الظُّروف، لأنّ السِّياسة دائماً ما تكون مُرتبطةً بكيانات الدول – ودولتنا السودانية العظيمة والمغلوبة على أمرها؛ وللأسف من بنيها، في مَسِيسَ الحاجة لمن يأخذ بيدها ويُسَيِِّر أمورها، فالوطنية الحَقّة؛ لا تسمح بما يصيب الوطن ولو بخدشٍ سطحي، نَاهيك عَمّا يُصيب السودان حالياً؛ وفي مقتل – ألا فليحمِ الله تعالى سُوداننا الحبيب؛ من البعيد والقريب – ولنا عودة.
    والله تعالى المُوفق لما فيه خير البلاد والعباد،،،
    مع أمنياتنا لسوداننا الحبيب الوصول الى الطريق الصحيح؛ لينطلق إلى ما يستحقه من مكانةٍ رفيعة.
شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.