العين الثالثة ||ضياء الدين بلال

30% تكفي!

شارك الخبر

-1-
تحتفظ ذاكرة التاريخ بموقف القائد الإنجليزي ونستون تشرشل، من نقل المطار الحربي المُجاور لإحدى المدارس البريطانية.
خضع تشرشل لحكم القضاء البريطاني، وقال مقولته الشهيرة: (لأن تُهزم بريطانيا في الحرب، خيرٌ من أن يقال إنها لا تُنفِّذ أحكام القضاء).
قرأتُ أكثر من مرَّة الوثيقة الدستورية. قلتُ لبعض الأصدقاء: لو أنها أنجزت فقط في الـ 39 شهراً تحكيم سلطة القانون على الحياة العامة لكفانا ذلك، فلا نطالب بالمزيد.
واحدٌ من أهم الأسباب التي أضعفت الثقة في النظام السابق، وراكمت عليه الغيظ الشعبي وذهبت بريحه، منحُ حصانات واسعة لأهل السلطة.
أكثر من مسؤول عدلي كان يتحدَّث للصحف بتبرُّمٍ وضيقٍ عن دور الحصانات في إعاقة تطبيق القانون وسيادة أحكامه.
حينما يُستهان بالقانون تسقط القيم وتسود ثقافة الغاب، ويختلُّ نظام الدولة ويضطَّرب مسار الحياة، ويتطبَّع المُجتمع مع الفساد، وينقسم على نفسه بين ظالمين ومظلومين.

-2-
بمُعادلة زمنية فقط، وأنت تقرأ نصوص الوثيقة، ستكتشف أن مهام الفترة الانتقالية المطلوب إنجازها في كل جوانب الحياة، لا يمكن أن تتحقَّق في 39 شهراً!
السودانيُّون عادة يضعون لأنفسهم مهامَّاً وواجباتٍ فوق مُعدَّل طاقتهم، وأضيق من مدى الزمن الذي يسمح بالإنجاز، فتبدو مشاريعهم أقرب للأماني من برامج العمل.

-3-
وقفتُ في الوثيقة على بعض الملاحظات، وخرجتُ ببعض التساؤلات التي لم أجد لها إجابات، لا في النصوص ولا في الشُّروحات.
نصَّت الوثيقة على لا مركزية الدولة، ولكن في الفصل الثالث تركت أوضاع السلطة المحلية والولائية غامضةً ومُبهمة.
لم تحسم الوثيقة بصورة قاطعة إن كانت الولايات والمحليات ستبقى على ما كانت عليه في دستور 2005، أم ستُحوَّل إلى أقاليم؟!
وقبل البتِّ في التقسيم والتسمية (ولايات أم اقاليم)، هل ستكون هناك حكوماتٌ ولائية من وزراء ومعتمدين ومجالس تشريعية أم لا؟!

-4-
لا أجد هناك ما يستدعي التشدُّد في اختيار وزراء مستقلِّين من ذوي الكفاءة، فلا يوجد مقياسٌ موضوعيٌّ لتحديد استقلالية أو انتماء أيِّ شخصٍ ذي كفاءة أو عاطل موهبة!
كثيرٌ من الموالين للأحزاب والمُتعاطفين معها، أو من لهم ارتباطات أسَريَّة بها، تجد لهم همَّة وفاعلية في خدمة الحزب أكثر من العضوية المُلتزمة!
ثم بافتراض الاستقلالية، الاختيار في حدِّ ذاته يسلب استقلالية الفرد المُعيَّن، حيث سيجد نفسه مُلزماً بتطبيق برامج من قام باختياره، وله سلطة عزله في أيِّ وقت!
سؤال: ترى هل سيستمرُّ تحالف قوى الحرية والتغيير في الفترة الانتقالية أم سيذهب كُلُّ حزبٍ ليستعدَّ للانتخابات القادمة؟
أم ستتحوَّل قوى الحرية والتغيير في الفترة الانتقالية لحزبٍ حاكم يُوجِّه ويُراقب ويُعاقب ويقترح قوائم التعيين والفصل، من منصة خارج المجلس التشريعي؟!

-5-
لا أعرف مُبرِّراً منطقياً لمنع المُشاركين في الفترة الانتقالية من الترشُّح في الانتخابات القادمة.
قد يُظهِرُ أحدهم تميُّزاً نادراً وكفاءةً عاليةً في موقعه الوزاري أو السيادي خلال الفترة الانتقالية، لماذا يُعاقب بالمنع والحرمان؟!!
المنع المُتعسِّف قد يدفع بكثيرين من أهل الكفاءة بألا يشاركوا في الانتقال حتى لا يُعدموا فرصهم في المستقبل.

-6-
التبعية المزدوجة لجهاز المخابرات بين مجلس الوزراء والمجلس السيادي، وهو جهاز حسَّاس، قد تجعل منه مركزَ نزاعٍ وتجاذبٍ بين الطرفين أو تُضعف فاعليته إلى حدٍّ كبير.
ورد في الوثيقة أن القوات المسلحة والدعم السريع ستتبع للقائد العام للقوات المُسلَّحة، وخاضعة للسلطة السيادية.
من سيكون القائد العام للجيش؟ هل هو رئيس مجلس السيادة؟!
كيف سيُوفَّق الوضع في الدورة الثانية من الفترة الانتقالية، حين يُصبح رئيس المجلس مدنياً؟!!

-7-
أكثر ما لفت نظري في تكوين المُفوَّضيات اشتراط عدم تولِّي عضو المفوضية مناصب سيادية ودستورية خلال 30 عاماً فترة حكم الإنقاذ!
لماذا ارتبط العزل بالمُفوَّضيات فقط، رغم أنها أقل أهمية من المجالس الثلاثة: (الوزراء والسيادي والتشريعي)؟!
وما العبرة من منح رئيس الوزراء تصريحاً مفتوحاً بتكوين مفوضيات جديدة، زالملاحظ أن المفوضيات الموجودة في الوثيقة أكثر من اللازم؟!!

-8-
جاء نصٌّ في الوثيقة يدعو لمحاسبة من سمَّاهم منسوبي النظام البائد على كل الجرائم التي ارتُكبت خلال ثلاثين عاماً، فترة حكمهم!
هذا نصٌّ مفتوحٌ ومُعمَّمٌ بصورةٍ غريبة، كيف تُحاسب كُلَّ منسوبي النظام على جرائم ارتُكبت خلال الثلاثين عاماً؟!
كان الأوْلى تحديد وتقييد النص بحيث يُشير إلى من ارتكب جرائم خلال الـ30 عاماً، من منسوبي النظام ولم يُعاقَب عليها.
منطوق ودلالة النص في الوثيقة يقتضي محاكمةً جماعيةً لكُلِّ منسوبي الحزب، على كُلِّ الجرائم التي ارتُكبت في الثلاثين عاماً!

-أخيراً-
رغم كُلِّ تلك الملاحظات والتساؤلات التي يُؤخذ منها ويُرَد، ما حدث يعتبر نقلة تاريخية في مسار تطور الحياة السياسية السودانية، ولو أنجز من الوثيقة 30% فقط في الـ39 شهراً، لكان ذلك إنجازاً عظيماً تستحقه أفراح الشوارع ودموع عمر الدقير.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.