“مناهل”.. عنوان عريض لـ(توهان) طفولة!!

الخرطوم: أميرة صالح

(طفلة) نحيلة سمراء، لم تتجاوز التاسعة من عمرها، ترتدي عباءة وتغطي الطرحة نصف شعرها، تتجوَّل بمنطقة (نفق جامعة السودان) الكائن بالخرطوم حيث يتخذ عدد من التشكيليين من هذا المكان مقراً يمارسون عبره فنهم (الرسم)، وسط هؤلاء الشباب الذين يجمعهم مشروع (مبادرة تلوين أفق جديد)؛ التقيتُ بالطفلة “مناهل” – وهذا ليس اسمها الحقيقي لأنَّ مصلحة الطفل الفُضلى حتَّمت علينا إخفاء اسمها حتى لا تطردها وصمة –ربما- تتسبَّب في (إعاقة) حياتها..
“مناهل” قالت لـ(السوداني) إنها يتيمة وبلا مأوى حيث كانت تقيم بإحدى دور الأيتام بالخرطوم ثم تبنَّتها أسرة أقامت معها فترة قصيرة ثم هربت منها لأنها لم تجد (راحتها) – على حد قولها-.. تفاصيل قصة هذه الطفلة تحكي عن واقع مرير يعيشه عدد هائل من الأطفال أمثالها. عبر السطور التالية نناقش ملف وضعيتها وزملائها من الجنسين، حيث عرضنا (مشكلتهم) على كل الجهات المُختصة وخرجنا بالحصيلة التالية:

رحلة بين المشافي
بدأت “مناهل” رحلتها مع الشارع، باكراً حيث كانت تنام بين مستشفى البراحة ببحري تارةً، وبمستشفى الخرطوم التعليمي تارة أخرى، وحسبما قالت لي فإنها لا تتعرض لأي مضايقات بهذين المكانين نسبة لوجود الزوار أمام المستشفى على مدار اليوم، الأمر الذي يضمن لها الأمان لأنها أحست بأن الشارع أرحم من أناس كانت تعتقد أنهم سيكونون لها بديلا عن والديها اللذين تركوها لتواجه مصيرها.
(بتجيب ليكم هَوَا)
مجموعة من التشكيليين بنفق جامعة السودان تعاطفوا معها فقرروا أن تصبح صديقتهم بالمنطقة حيث كانت تتقاسم معهم الأكل وتوزيع الـ”شير” عند انتهاء اليوم، بل حتى فقشاتهم أثناء الرسم تقاسمتها معهم والتي كانت تخفف عليهم حر الصيف مما دفع إحدى الرسامات إلى أن تفكر في أخْذها إلى منزلها لتبقى في بيئة أفضل من الشارع، وبعد يومين من المبيت في منزل الرسامة غادرت في صبيحة اليوم الثالث مع خيوط الصباح الأولى إلى موقع العمل مما أثار استفهامات لدى البعض، إلا أن أحد الشباب نصح زميلته بأنها إذا داومت على أخذ الطفلة “مصابيح” معاها ستواجه مشاكل لا نهاية لها.

الهاتف مُغلق
وضمن تجوالها بمنطقة النفق قابلت “مناهل” صاحب محل “رصيد” اسمه “اسحاق” حيث لجأت إليه “مناهل” أثناء تجوالها بالنفق.. في أحد الأيام طلبت من أن يتصل لها برقم هاتف لشخص قالت إنها تحتمي به، لكن لسوء حظها كان الرقم مغلق ما سبَّب لها إحباطا شديدا جعله يسألها: (إنتي ليه ما مشيتي المدرسة؟ وأهلك وين؟)، فردت عليه: (أنا ما عندي أهل، كنت في دار أيتام، وبعدين تبنَّتني أسرة لمَّا أبوهم جاء من السعودية وعرف إني مسجلة على اسم قام بتمزيق الورقة وطردني، وبعدين مشيت الأُبيِّض ولقيت لي أسرة كانوا بعاملوني كويس وزي بنتهم وأحسن كمان، لكن يوم جاء رجل من جيرانهم وقال ليهم البت دي بعدين لمن تكبر بتجيب ليكم “هوا”.. بعد داك أنا حسيت براي وخليتهم عشان ما أعمل ليهم مشاكل).
بعد أن سمع إسحاق – صاحب الرصيد – رواية “مناهل” رقَّ قلبه فتكفَّل لها يومياً بأن يعطيها ما يلزمها وتحتاج إليه من مستلزمات.

بيع كلية!!!
بعد يومين جاءت “مناهل” تحمل في جعبتها حديثاً أصاب بائع الرصيد “إسحاق” بالقلق والهول والرُّعب عندما أخبرته بأن إحدى الصينيات التي تعمل بمستشفى البراحة قالت لها إنها ستعطيها “قروش كتيرة” مقابل بيعها لـ”كليتها”.. وقبل أن يفيق إسحاق من صدمته أردفته بقصة أخرى أكدت فيها أن أحد التجار بموقف استاد الخرطوم قال لها “اشحدي قروش في الاستوب تحت، وأنا بدِّيك نصها”، مقابل أن يستضيفها بمنزله.
وزارة التنمية.. بس بعاين بعيوني!!
وهنا يدخل دور أحمد الذي يُعتبر أحد قادة المجموعة بالنفق وتجمعه علاقة طيبة ببائع “الرصيد” إسحاق الذي تثق فيه “مناهل”. حكى الأخير للأول القصة التي سمعها من “مناهل”، الأمر الذي أقلق الشابين ودفعهما إلى التحرك لوزارة التنمية الاجتماعية باعتبارها الجهة التي تهتم بـ(مناهل) وزملائها من المُشرَّدين. وفي صباح اليوم التالي توجهَّا إلى الوزارة حيث استقبلتهم موظفة في قسم الرعاية فأخبروها أنهم وجدوا طفلة في الشارع وقد عانت، لذلك أرادوا أن يؤمِّنوا لها بيتا أو مستقبلا أفضل من الشارع عبر الوزارة.
الموظفة بوزارة التنمية الاجتماعية أكبرت فيهم تعاطفهم ورعايتهم لـ”مناهل” فقالت لهم: “بارك الله فيكم والله انتو خير البلد دي”، إلا أنها لم تقدم لهم سوى بعض معلومات مثل أن وحدة حماية الطفل والأسرة لديها رقم للبلاغات (9696)، بالإضافة لقولها إن زميلها عوض سيتحرك معهم فورا بعد قدومه من وجبة الفطور، إلا أن حضور عوض كان مثل غيابه لأنه لم يكن مستعدا ليذهب معهم لوحدة الحماية، واكتفى فقط بوصف المكان مما يوضح أنهم غير مستعدين لتقديم أكثر من ذلك.

وحدة حماية الطفل
من وزارة التنمية الاجتماعية تحرك الشابان إلى وحدة حماية الطفل والأسرة بشارع 41 العمارات، وهناك تعرفوا على معلومات خطيرة من الباحثة الاجتماعية التي تعمل هناك (ب، ج) حيث قالت لهما إن المجتمع لا يعرف أهمية وحدة حماية الأسرة والطفل عندما يضيع طفلها، لأن الأسر تلجأ إلى المستشفيات وأقسام الشرطة، ولذلك ربما يستغرقون وقتاً في الحصول عليه؛ موضحة أنهم كوحدة لحماية الطفل يفتقدون إلى كثير من المقومات للتعريف بأهمية هذه الوحدة، مؤكدة أن ضعف الإمكانيات جعلها هي وإحدى زميلاتها يضطررن لجمع بعض المال لتوفير بعض الألعاب والملابس “وصابون الحمام” وبعض البسكويت لأن الأطفال عندما يأتون يكونون في حالة يُرثى لها فيحتاجون إلى حمام وملابس يستبدلونها بالتي كان يرتدونها، كاشفةً أن أحد المفقودين من الأطفال الذين جاءوا إلى هنا، لم يجد ما يريده من طلبات الأطفال فقام بضرب رأسه مع الحائط مما أدى إلى إصابته بنزف في الرأس.

طفل نيالا
ومضت الباحثة الاجتماعية بقولها، إنَّ فض الاعتصام بالقيادة العامة كان سببا في ضياع عدد كبير من الأطفال، وقالت إنه تم تسليم عدد من الأطفال إلى ذويهم؛ وآخرهم طفل نيالا الذي كان في حالة صدمة، إلا أنه كان يكرر لفظ بعض الأماكن وأسماء الأشخاص، بالإضافة إلى تكرار اسم نيالا حتى تمكن زميل لنا من التأكد من تلك الإشارات التي ذكرها فكانت سببا في رجوعه لأسرته.

“مناهل” تبكي!!
وفي منتصف أحد نهارات الأيام الماضية جاءت عربة وحدة حماية الطفل تبحث عن “مناهل” بالتعاون مع أحد شباب (النفق) تحت نفق جامعة السودان الذي أخبرها عند الصباح أن جماعة وحدة الحماية ستأتي إلى هنا لكيما تؤمِّن لها مستقبل أفضل من الشارع وأنه سيتمكن من أخذها إلى منزله حتى تقتنع بأن تذهب مع أفراد وحدة الحماية والطفل عند اقترابهم منها بدأت “مناهل” في البكاء لأنها لا تريد أن تذهب معهم، الأمر الذي استصعب على الأفراد معاملتها بطريقة قاسية، فطالبوا من أحمد أن يقودها إلى العربة دون ملاحظة الحضور لأنهم قبل أيام تعرضوا إلى جلسة محاسبة، لأنهم تعاملوا مع سيدة مضطربة عقليا بالقوة الجبرية لأخذها حتى يتسنى لهم توفير بيئة ملائمة لها ومن ثم أخذها إلى المصحة، وقياساً على تلك الواقعة يفضلون أن يتعامل مع الطفلة “مناهل” الشاب أحمد لأنه يعرفها ويعرف التعامل معها.

(الشر يعُم!!)
حُجَّة الطفلة “مناهل” لعدم رغبتها الذهاب إلى وحدة حماية الأسرة والطفل، أنه (لو شافع اتشاكل مع صاحبوا بدقوا الأطفال كلهم عشان كدا ما عاوزة أمشي معاهم)..
لكن أحد أفراد وحدة حماية الأسرة نفى كلامها جملةً وتفصيلا، مؤكدا أنها تكذب وأنها تعرفهم جدا لذلك لا تريد أن تذهب معهم، وأنها تفضل الشارع على لم شملها مع أسرتها.

أخيراً جداً
“مناهل” ذهبت إلى وحدة حماية الأسرة والطفل لكن تبقى ثمَّة أسئلة تطرح نفسها، هل ستستمر هناك أم تفر كما فرَّت من قبل؟ ولماذا تفضِّل الشارع على الوحدة؟ هل لأنها وأقرانها يجدون أنفسهم في وضع صحي ونفسي أفضل في الشارع؟ ولماذا؟ والسؤال المهم جداً هو: كم يا تُرى أمثال “مناهل” ممن (لفظتهم) الأُسر و(احتضنهم) الشارع؛ كمْ كمْ؟!!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.