بدون ألوان حمدي صلاح الدين

(الممطورون داخل المظلة)

شارك الخبر

“أن تكون حكيماَ واسع الاِطّلاع بحيث تلازم بيتك حين ينهمر المطر، لهو خطأٌ فادحٌ، فقد تُوفِّر لك حكمتك تلك الدفء والسكينة، لكنها تُفوِّت عليك فُرصة التّمتُّع بعالم من الجمال لا يُحد ولا يُوصف” فيكتور هيجو.
في منتصف الطريق انهمر المطر على رأسي بغزارة وحبيبات كبيرة تبدو أكبر من المُعتاد.
هرولة هنا وهرولة هناك وسط الطريق المُسفلت، ونحن مُتّجهون من الجنوب إلى الشمال والمطر تأخذه الرياح من الشمال إلى الجنوب في وجهنا تماماً، رجالاً وشباباً ونساءً وطفالاً، هرولوا مع اشتداد سُرعة نزول المطر.
انحرف بعضنا يميناً، وبعضنا الآخر يساراً مع اشتداد المطر ودخلت مع الداخلين “مَظلّة دكان” يمين الشارع. تلانا رجلٌ، ثُمّ شابٌ، ثُمّ شابان والكل مُبلّل الثياب. وظللنا ندعو العابرين للدخول إلى المَظَلّة لغزارة المطر وقتها، بعضهم يردد مُهمهماَ “البيت قريب.. وصلت” ويرونه قريباً لكننا نراه بعيداً.
استمر هطول الأمطار لنصف ساعة كاملة أو يزيد وبغزارة.
الدكان انهمرت المياه من سقفه إلى الداخل. الكل ساعد صاحب الدكان في إبعاد البضاعة من مرامي مياه السقف. التفتّ ناحية الشارع، الهرولة مُستمرة “يازول تعال المظلة خلي المطر يقيف” نهتف نحن. يرد العابر مهمهماَ “كتِّر خيركم.. أنا وصلت” وندري أنه لم يصل بعد!
شاب عشريني دلف إلى المظلة يحمل كيس خُبز. الكيس مُمتلئ عن آخره بالخُبز والمياه وملابسه مُبلّلة عن آخرها. يبدو أنه جرى طويلاَ تحت المطر ثم انتهى إلى المَظلّة كخيارٍ أخير ووحيدٍ. أفرغنا الخبز من الكيس ونشرناه على كاونتر الدكان عسى ولعلّ أن يجف.
امتلأت أرضية المظلة بالمياه. صاح أحد الممطورين “أفصل الثلاجات يا معلم” وقام صاحب الدكان بفصل الثلاجات الست الكائنة في المظلة تحسُّباً لأيِّ التماس قد يأتي بنتائج لا تُحمد عقباها.
بعد الشعور بالدفء، تحدّث الممطورون داخل المظلة عن الاعتصام وفضّه، والمجلس السيادي وبطئه، وتعيين القضاء والنيابة العامة وتأخيره، وكيف تسير حكومة حمدوك. المظلة كانت برلماناً مُصغّراً بتيارات مُختلفة، برلماناً حمل نقاشاً واعياً وهادفاً لكل قضايا المرحلة. كان هناك مُتّسع من الوقت. اتّفق الممطورون داخل المظلة واختلفوا في جوٍّ جميلٍ وروحٍ أجمل.
خَفّت هطول الأمطار قليلاَ خرجت وخرج آخرون قطعت حوالي خمسين متراً ثم عاودت الأمطار الهطول مَرّةً أخرى.
بنظرةٍ سريعةٍ قَدّرت المسافة، لقد أصبحت وجهتي أقرب من العودة إلى الدكان، لهذا لا بُدّ من شد المئزر مع “جَكّة خفيفة” ممكن أصل بسلام. حاولت طرد الفكرة من رأسي لكن شدة هطول المطر وبُعد الدكان عني ضيّق الخيارات أمامي ووضعني أمام خيارٍ وحيدٍ “الجري ولا شئ غيره”. وظللت أعلِّل لنفسي “الجري من الظروف الطبيعية ليس كالجري خوفاً بالتأكيد”!
الشارع خالٍ من المارة، أغلبهم في مظلات الدكاكين تركتهم خلفي. لم يأمنوا المطر فلم يخرجوا حتى يتثبتوا من توقفها الكامل. حاولت الاتّصال بمحمد حسن حتى يفتح الباب ومن الجكة أدخل الصالون توووش. الهاتف مُغلق. الأمين الهاتف مُغلق. مُعتصم الهاتف مُغلق. عزو (عزو ما رجع من السفر). اصبروا يا ناس زين قاطعين الشبكة والمطر في رأسي. أفضى ليكم بس. وضعت كيسين وكرتونة بين ملابسي المُبتلة وصدري مخافة نزلة برد حادة قد تُصيب في هذه الحالات!
كان لا بُدّ من اتخاذ قرار سريع مع هذه الهواتف المغلقة وهذا المطر (الحبتو بتفلق الرأس). تذكّرت علم النفس وقصة (الثعلب والعنب) وكيف حكاها لنا بروف.
علم النفس في قاعات جامعة النيلين وربطتها مع فلسفة أنيس منصور حين قال “إذا أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فعلينا أن نفعل ما نحب، وإن فشلنا فعلينا أن نحب ما نفعل”. فاتّخذت قراري بعد مُفاضلة الفلسفة وعلم النفس تلك. يلا “جَكّة خَفيفة” رياضة إجبارية تحت حَبّات المطر وظلال القمر. اعتمرت حذائي جَيِّداً وهرولت بنصٍف سرعةٍ أخذاً في الاعتبار الأرض الزراعية التي تطوق شمبات وكيف يكون شكل “الزلقة” في منتصف الطريق. آهـ يبدو أن بروف الفلسفة وأنيس منصور لم يشاهدا هذه الأرض الزراعية قبل أن يقولا “لنحب ما نفعل”. يلا طيِّب نجري بحُبٍ كبير ٍكما قال أنيس منصور. حدّثت نفسي.
تلفّت يمنة ويسرة وحدّثت نفسي “الشارع فاضي حتى لو انزلقت مافي حَد يشوفك” واتّخذت القرار سريعاً وبدأت الهرولة.
استقبلني عم عبد الرحمن وصديقي الأمين. كَانَا مُصادَفَةً خارج المنزل. عم عبدالرحمن ضاحكاَ “يا زول المطر الليلة جلدك جلدة أدخل البيت اِتشطف من الطين ده”. دخلنا ثلاثتنا وشربنا الشاي الساخن تخفيفاَ لحدة “دق المطر”، ثم خرجنا حيث نجلس يومياَ لتكملة “طق الحنك”.
عم عبد الرحمن أبونا وكبيرنا وسَندنا ورمز عزّتنا في الحلة، سأفرد له مساحات أخرى منفصلة إن شاء الله تعالى.
للآن بعطس من جلدة المطرة وكله بسبب انتظار أيمن علي في الشارع.. ليك يوم يا أيمن علي.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.