العين الثالثة…ضياء الدين بلال

سقوط الأقنعة!

مدخل:
السياسةُ ابنةُ المُفاجآت، لا تثقْ في الرَّاهن ولا ما في يدَيك، ولو كنت تظنُّ أنك تُحكِم الإمساك به، الدنيا قلبٌ والأيَّام دول، فما تملكه الآن قد تفقده في ارتداد الطرف.
وما استيأستَ منه، بانعدم الرجاء وانقطاع الأمل، قد يأتي إليك على أجنحة هُدهد الصدفة وعفاريت المُفاجأة!

-1-
في أيام سطوة الشيخ حسن الترابي في العشرية الأولى للإنقاذ، اعتُقلَ السيد الصادق المهدي وعُومل معاملةً قاسيةً وفظَّة.
أُجلس عزيز قومه، على مقعد بثلاث أرجل، لساعات طوال، وذهب ثلاثة من الصحفيين: الراحل محمد طه، والرائع عادل الباز، وثالث، للترابي، مُحتجِّين على اعتقال المهدي وسوء معاملته.
لم يجدوا من الشيخ وقتذاك سوى السخرية والتبرير وتناول وجبة الغداء!

-2-
دارت الأيَّام وتبدَّل الحال: خرج الشيخ من كابينة السُّلطة مُغاضباً أهلَ بيته التنظيمي، وفي عام 2004 اقترب المهديُّ من مُحالفة أهل القصر، بعد مُغازلة مُتبادَلة. حينها اعتُقِلَ الترابي في زنزانةٍ صغيرةٍ وأُهين في محبسه!
وكان أهمُّ خبرٍ تناقلته الصُّحف وقتها، أن فأراً شريراً قام بعضِّ إصبع الشيخ!

-3-
الفريق صلاح قوش، الذي أَجلَسَ المهدي على ذلك الكرسي واعتَقَلَ الترابي حين غضبة، دارت عليه الأيَّام واتُّهم بالمشاركة في محاولة انقلابية، وتمَّت مُعاملتُه بقسوةٍ مُغلَّظة، وجيء به إلى المحكمة بجلبابٍ غير نظيف!
حينذاك، كان الدكتور الحاج آدم الذي طارده قوش عبر إعلان لمُتَّهمٍ هاربٍ نُشِرَ بالصحف؛ جاء يوم سعده، فأصبح نائب رئيس الجمهورية، وإذا بالأقدار تسمح له بتهديد مدير المخابرات السَّابق بسيف الحسم!

-4-
مرَّ ذلك الشريط على ذاكرتي، وأنا أُطالع قبل يومين المُبرِّر المُقدَّم لإصدار قرارِ تمديد الطوارئ.
لم أجد أسوأ من المُبرِّر المُقدَّم من عضو بالمجلس السيادي لذلك القرار.
في الوقت الذي يَنتظرُ فيه دعاة التغيير ترسيخَ حُكمِ القانون في فترة الانتقال؛ فإذا بقوى الحرية تحرص على تمديد حالة الطوارئ التي تمنح تصريحاً مفتوحاً، لتجاوز القانون وإهدار قيم العدالة!

-5-
كان السؤال: لماذا يتم التمديد؟!
جاءت الإجابة: رفع الطوارئ سيترتَّبُ عليه إطلاق سراح رموز النظام السابق المُحتجزين منذ أبريل الماضي إلى اليوم!
كان بإمكان المُجيب أن يجتهد بقليلٍ من الحصافة، في إيجاد مُبرِّراتٍ أُخرى تتناسب ومبادئ الثورة.
على وجه المثال، الادِّعاء بوجود مخاطر أمنية تُهدِّدُ استقرار الفترة الانتقالية.

-6-
مثل هذه الحُجَّة يُؤخذ منها ويُردُّ بالقبول والرفض، ولكن القول إن الطوارئ للإبقاء على المُحتجَزين قيد الاعتقال.
في ذلك تجاوزٌ لسلطة القانون الطبيعي، وهتكٌ جائرٌ لمبادئ الوثيقة الدستورية ومواثيق حقوق الإنسان الدولية، وإدانة أخلاقية لن تغفل عن توثيقها أقلام التاريخ.
نعم، لن يجد قرار التمديد من يُعارضه سوى المتضررين ودوائرهم القريبة والمُتعاطفة، وبعضُ قليلٍ من أهل قول الحقِّ في أزمنة التخوين والأبلسة الكيزانية.
بفعلها ذلك، ستكون قوى التغيير المُتزيِّنة بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، قد التقطت عدوى فيروس الدكتاتورية والشمولية والتسلُّط، أو بالأحرى ربما كان في مجرى دمها قبل الوصول إلى السلطة وسقوط الأقنعة!

-7-
ليس من العدل أن يظلَّ شخصٌ مثل أبوهريرة حسين في أشدِّ حالات مرضه يواجه مخاطر البتر والعمى لمدة ستة أشهر، دون اتهامات محددة، وذلك لأسباب غامضة ومُبهمة!
حتى البقية من سياسيين ورجال أعمال من العدل والانصاف أن يُحاكَم من تجاوز وأفسد منهم بالقانون الطبيعي والإجراءات الجنائية السليمة، حتى لو ترتَّب على ذلك الحكم بالإعدام.
الإعدام بالقانون أفضل من الحبس بلا قانون.
تحتفظ ذاكرة التاريخ بموقف القائد الإنجليزي ونستون تشرشل، من نقل المطار الحربي المُجاوِر لإحدى المدارس البريطانية.
خضع تشرشل لحكم القضاء البريطاني، وقال مقولته الشهيرة: (لأن تُهزم بريطانيا في الحرب، خيرٌ من أن يقال إنها لا تُنفِّذ أحكام القضاء).

-8-
إخضاع المحتجزين لقانون الطوارئ وللإجراءات الاستثنائية يُعطي انطباعاً بأن السلطات لا تملك عليهم أدلَّةَ إدانةٍ قوية.
وفي ذلك تبرئة أخلاقية للمحتجزين وإدانةً بالقصور والتجنِّي لجهاتِ الاختصاص العاجزة خلال ستة أشهر عن تقديم قضية اتهام قوية ومتماسكة.

-أخيراً-
بالقطع كثيرون سيقولون: دعهم يشربون بذات الكأس الذي سقوا به معارضيهم طوال ثلاثين عاماً.
من يقولون ذلك لن يجدوا أفضل من نصيحة المهاتما غاندي لإخراجهم من ضيق الغبن إلى سعة الحكمة: (قانون العين بالعين يجعل كل العالم أعمى).

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.