د. نوال حسين عبد الله

تغيُّرات سياسية وبيئية!!

شارك الخبر

تغيّر النظام السياسي للحكم في السودان بصورة أدهشت كل العالم، وأرست لقواعد جديدة في العمل النضالي، وألبسته الرقة والجمال والصدق، فكان حدثاً إنسانياً أعاد إلى المجتمع فضائله وصفاته المنهوبة طوال ثلاثين عاماً من حكم الفساد العُنف والوحشية، وهذا يُعتبر تغيُّراً كبيراً ومهماً على المستوى الاجتماعي، حيث تحوّل هذا المُجتمع إلى أوضاع أفضل تمكِّنه من الانطلاق إلى المُستقبل, وهذا يعني وجود تغيُّرات في المُجتمع بأفراد هو مُؤسُساته وهيئاته إلى حالة أكثر إيجابيةً وفاعلية وقوة وقُدرة على إدارة شؤونه، وعلى مُحاسبة الفاسدين ومُعاقبتهم، والتصدِّي لمُحاولات كبته أو قَهره، وهذا تغيير إيجابي يجعلنا نترقّب مُجتمعاً جديداً بقيم إنسانية أكثر جمالاً وأفكاراً مُتجدِّدة ورؤى مُستقبلية واضحة، ولا يمكن أن يشوب هذا التوقع خذلان في أي جانب من جوانب قيم التحضر والرقي والتنمية المُستدامة!! ولا بُدّ أن نتوقّع إدراكاً واعياً وشاملاً لمعنى التغيير الإيجابي للمُجتمعات من المسؤولين عن إدارة هذا التغيير، ولن نرضى أن يختزل هذا التّحوُّل الكبير بأن يتم فيه استبدال مجموعة مُسيطرة مُتحكِّمة بمجموعة أخرى مُسيطرة لا تصغى إلى صوت الطبيعة وصراخها، وتترك للشأن البيئي أن يُدار بمثل هذا العبث الحاصل الآن!!
إنّ العالم كله يشهد تغيُّرات مناخية واضحة وحادّة أحياناً، حيث يُعتبر تغيُّر المناخ المشكلة الأكثر أهميةً وتحدياً للعالم أجمع، وتلتف جميع دول العالم بلا استثناءٍ مع بعضها البعض لاتّخاذ التدابير اللازمة لوقف هذا الجنوح غير المسبوق في أشكال الطقس والمناخ منذ عقود عديدة، حيث من المتوقع أن تزداد موجات الحر والجفاف والمطر الشديد ومخاطر الفيضانات، ممّا يُهدِّد النظُم البيئية والمُستوطنات البشرية والصحة والأمن, وأحد مواطن القلق الرئيسة هي أن زيادة الحرارة والرطوبة يمكن أن تجعل العمل البدني في الخارج مستحيلاً, وربما يكون السيناريو الأسوأ المتوقع!! إن لم يلتزم العالم بالحد من انبعاثات الكربون الصناعية، الذي يتسبّب في ذوبان الجليد وحُصُول فيضانات وغَمر جُزر ومُدن ساحلية بالكامل بالمياه.. كما أن للتصحر والجفاف نتائج كارثية مُتوقّعة نظراً لارتفاع درجات الحرارة، حيث سيفقد البشر مساحات زراعية واسعة.. إضافةً إلى ذلك، ستكون الغابات الكُبرى مُهدّدة بحرائق تأتي عليها وتقتل كل ما يقطنها من نباتات وحيوانات ذات أهمية بالغة في الحفاظ على النظام البيئي كما حدث في غابات الأمازون في الأشهر الماضية! علاوةً على ما يرافق ذلك من تلوُّث الهواء والتربة.
وهنا في السودان، رصد الخبراء الكثير من التغيُّرات التي ظهرت على البيئة في السودان بسبب تغيُّر المناخ، منها أنّ هطول الأمطار بات يتأخّر عن موعده أحياناً وتطول فترة الهطول إلى شهر نوفمبر مما خلق ارتباكاً في مواسم زراعة المحاصيل. كما ارتفعت درجة الحرارة في الصيف الماضي ارتفاعاً غير مسبوقٍ مما جدّد الخوف من السيناريوهات المُحتملة للتغيُّرات البيئية! إنّ تلك التغيُّرات المناخية لا شك أننا سننال منها نصيباً وافراً، وقد بدأ ذلك السيناريو عندنا منذ العام 1970 إلى الآن، حيث لُوحظ تذبذبٌ في الأمطار وقلتها، مِمّا أدى فيما بعد إلى فترات الجفاف الطويلة التي نتجت بما يسمى مجاعة (1983)، ومن المتوقع أن تتعرض الأراضي الزراعية والمواسم الزراعية والإنتاجية للتدهور ما لم يتم التكيُّف مع تلك التغيُّرات، خاصّةً في الأراضي الجافّة وشبه الجافّة واتخاذ التدابير اللازمة لمُواجهة القادم في ظلال قصور في الإمكانَات والسياسات وتنامي الصراعات الحادثة في كيفية إدارة الشأن البيئي!
نحن بلد هشٌ بيئياًَ، حيث نُعاني من تدهورٍ بيئي مُريعٍ ومُضطردٍ في بيئاتنا الطبيعية مما يعني أن التغيُّرات المناخية ستخلق ثورات مُختلفة من الجوع والحرمان والاحتقانات والصراعات على الموارد، ما لم نتجاوزها ونُوفِّر آليات مُعالجة التغيُّرات المتسارعة. وإن الاقتصاد السوداني يقوم على الزراعة التقليدية إذ يعتمد أكثرية المواطنين على إنتاج الحبوب وتربية الماشية كأهم مصادر المعيشة، وتُساهم الزراعة بحوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي. إنّ القطاع الزراعي يُسيطر عليه البسطاء الذين يَعيشون تحت ظروف فقرٍ مُدقعٍ ويقاومون ذلك الفقر بالنظر إلى السماء وانتظار السقيا من إله عادلٍ لكي يزرعوا أرضهم ويجدوا الماء لبهائمهم! ولا تُقدِّم لهم الدولة شيئاً! إنّ هذا الاقتصاد يبدو مُهتزاً وهَشّاً في واقع مُواجهته لأيِّ نوع من الأزمات المناخية! لذلك من المهم والضروري أن تخرج علينا المؤسسات الحكومية البيئية بمنظومة قوية راسخة لمقابلة التغيُّرات المناخية تتضمّن رؤى ومُقترحات عملية في كيفية الاستعداد لما هو قادمٌ وتحمُّل الضغوط والأزمات التي قد تفجِّرها التغيُّرات المناخية من جفافٍ مُتوقّع أو فيضاناتٍ عابرةٍ!
وهذا يتطلّب وُجُود تَوأمة بين النمو الاقتصادي والبيئة ومدى ملائمة الأنظمة البيئية لما هو قادمٌ من تغيُّرات مناخية، إن الاهتمام بالمُجتمعات المحلية في الريف والشرائح الضعيفة في الدولة التي تفتقر إلى القوة الكافية والآلية المُناسبة في التّحدُّث عن حُقُوقها وقضاياها وأزماتها في مناطقها وتوعيتها بيئياً بما يحدث ويُدار حولهم، ومُساهمتهم في إيقاف التردي البيئي المُتسارع على بيئاتهم والتّكيُّف مع ما يحدث من تغيُّرات في المناخ، يجب أن يكون من أول اهتمامات المسؤولين في الدولة وتضمينها عبر استراتيجيتهم وتفعيل الأجهزة البيئية، وذلك بتطبيق برامج التكيُّف مع تغيُّرات المناخ.
هنالك حاجة كبيرة بصورة عاجلة إلى تبني برامج التخفيف والتكيُّف لمخاطر التغيُّر المناخي تتطلّب اتباع نهجٍ جديدٍ مُتعدِّد الأطراف يشارك فيه العلماء والخبراء والسياسيون والمسؤولون في وضع خُطة مُستقبلية لمُواجهة التغيُّرات المناخية! إنّ سياسة كل فريق يلعب في حلته لن تأتي بخير علينا، كذلك على العلماء والخبراء يجب أن يبسطوا المَعلومات لكي ينزلوا بها لفهم المُواطن العادي، فحينما تقول إنّ هنالك ثقباً في الأوزون، وإن طبقة الثلوج تذوب لن يفهم المواطن البسيط شيئاً وماذا يَهمّه في هذا الأمر، مثل أن تقول إنّ الأمطار السنة القادمة لن تكون في كمياتها المُعتادة، وإنه يجب علينا تخزين المياه وترشيدها! وإنّ مخزون مياهنا هذا سيحمي إنتاجنا العام القادم، وإن الفيضان بالتالي لن يغرق حقولاً ولا يقتل ماشية! وإن هنالك دوراً عليّ كمواطن في حماية بيئتي وأرضي من أن تتدهور، فلا أرهق التربة، ولا أهدر الماء، وأن أعمل على زراعة محصولات تعمل على زيادة دخلي، وتغطي احتياجاتي طوال العام، وإنه يجب أن يُؤخذ برأيي في أيِّ مشروعٍ يُقام بالقُرب مني والتعويض عن أيِّ سلبيات قد تُؤثِّر على بيئتي أو إلغائه في حالة ازدياد الخطر البيئي من قيامه مهما كانت منفعته المادية وهذا يجب أن يُعتبر حقاً أصيلاً للمجتمعات!
إنّ الإرادة السياسية ضرورية ومُهمّة في وضع البرامج المعدة لتغيُّر المناخ موضع التنفيذ. وهذه الإرادة غير واضحة المَلامح للآن في شأن القضايا البيئية، إذ ما زالت المُؤسّسات البيئية الحكومية تُعاني العجز والقُصُور وتسير بوتيرة الميزانيات السّابقة التي لا تكفي، إضافة إلى تشتتها حيث لم تضمن في جهاز تنفيذي واحد مما يشتت الجُهُود ويُساهم في انعدام التنسيق والتقاء الأهداف والاتفاق على المصلحة العامة وهذا شئٌ أحدث إرباكاً في هذه المُؤسّسات ذات الصلاحيات المُتعدِّدة! مما أوجد حالة من الركود والجمود في الأداء العام للبيئة وأوجد صراعات المصالح والترضيات، وهذا أمرٌ يستحق أن يتم الالتفات إليه بسرعةٍ وحسمٍ، ولا بُدّ من وجود إرادة سياسية لدعم قضايا البيئة بالسودان في هذا التوقيت!
في ظل هذا التجاهُل الرسمي غير المُبرّر، نسأل أين الاهتمام السياسي والرسمي بأمر البيئة؟ هل نحنُ بمعزلٍ عن العالم، هل نحن أقل اهتماماً بما يدور حولنا، هل أوضاعنا مُرتّبة لمواجهة ما يحدث، هل القائمون على أمر البيئة الآن عجزوا عن توصيل هذا الاهتمام لأصحاب القرار، هل البيئة غير معني بها، هل تعتبر ترفاً غير ضروري في ظل قضايا أخرى ينظر لها على أنها أكثر حدة واهتماماً؟!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.