د. صلاح محمد إبراهيم

حمدوك في واشنطن ومحاولة للسباحة في نهر البوتوماك

شارك الخبر

الولايات المتحدة دولة عظمى لا يمكن تجاوزها وإن اختلفنا مع بعض سياساتها، علافتها بالسودان قديمة قبل الاستقلال ومن الضروري البحث عن روابط مشتركة معها وإنهاء حالة العداء، كما أن على واشنطن أن تراعي الظروف المعقدة التي نشأت بها الدولة السودانية بثقافاتها وقبلياتها المتعددة والفوارق التاريخية والتنموية التي ورثتها الدولة السودانية منذ ما قبل الاستقلال، بدأت العلاقات الدبلوماسية السودانية الأمريكية منذ عام ١٩٥٦ وتعتبر واشنطن من أوئل الدول أو هي ثالثة دولة أصبح لها سفارة لها في السودان بعد مصر وبريطانيا، وكانت واشنطن قد شاركت قبلها في مراقبة الانتخابات الأولى في السودان وقد دل ذلك على اهتمام مبكر بالشأن السوداني، وتبعه دخول السودان في برنامج المعونة الأمريكية بعد جدل ومشاكسات حزبية في البرلمان بين الحزبين الكبيرين، وعندما جاء الفريق عبود إلى الحكم في عام ١٩٥٨م، وجد الطريق ممهداً إلى واشنطن وقام بزيارة تاريخية للولايات المتحدة واستقبل كرئيس دولة بحفاوة كبيرة بهدف استمالته للوقوف في وجه دعوة القومية العربية التي كان يقودها الرئيس جمال عبد الناصر.
خلال فترة الستينيات تدهورت العلاقات بعد قطع السودان علاقاته الدبلوماسية مع واشنطن بعد اندلاع حرب ١٩٦٧م، ثم توترت العلاقات في بداية انقلاب مايو ١٩٦٩م بسبب قرب النميري من تيار القومية العربية ولكنها اكتسبت قوة دفع جديدة بعد دحر النميري انقلاب هاشم العطا عام ١٩٧١م وعادت العلاقات الدبلوماسية عام ١٩٧٢م وحظي النميري بدعم أمريكي كبير، بل حقق السودان خلال فترة السفير عمر صالح عيسى نجاحاً في العلاقات مع واشنطن لم يتحقق مثله إلى الآن خاصة بعد أن أصبح عميداً للسلك الدبلوماسي العربي في واشنطن، وأعتقد أن تصنيف السودان من قبل الإدارة الأمريكية ضمن الدائرة الأفريقية هو الذي يشكل عقبة رئيسية الآن في علاقات واشنطن مع الخرطوم، ذلك لأن الدائرة الأفريقية لا يتوفر لها قوة الضغط التي لدى المجموعة العربية في واشنطن ولابد من تصحيح هذا الوضع.
يلاحظ عند الحديث عن العقوبات أنه على الرغم من من واقعة اغتيال السفير الأمريكي كليو نوئيل ونائبه في السفارة السعودية عام ١٩٧٣م بواسطة حركة أيلول الأسود الفلسطينية، أن واشنطن لم تتخذ إجراءات في مواجهة السودان واكتفت بسحب سفيرها في العام التالي ولكنه عاد في نفس العام إلى الخرطوم، بل جاءت شركة شيفرون للتنقيب عن النفط في عام 1979م ثم عاد التوتر بعد تراجع النميري عن اتفاقية أديس أبابا الخاصة بالحكم الإقليمي لجنوب السودان، ثم دخول الإسلاميين للحكم وتعديل القوانين وتبني الشريعة والنهج الإسلامي وزيادة نفوذ الإسلاميين الاقتصادي ومغادرة شركة شيفرون للسودان عام 1984م، وخلال فترة حكم الصادق المهدي بعد انتقاضة أبريل 1985م لم تتطور العلاقات كثيراً بسبب شكوك أمريكية حول قدرة حكومة الصادق على الاستمرار والسيطرة على الوضع في جنوب السودان، وقبلها لم يحدث تقدم خلال فترة سوار الذهب .

من المؤكد أن فترة حكم الإنقاذ قد شهدت تدهوراً كبيراً بسبب سوء تقدير من قبل الإسلاميين لقوة الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على معاقبة الأنظمة التي تخالفها أو تخرج عن التجاوب مع توجهاتها الدولية، وكان لابد للإسلاميين الذين تعاونوا مع واشنطن خلال حرب أفغانستان لدحر وهزيمة الاتحاد السوفيتي أن يعلموا أن دورهم قد انتهى، وأن دورهم الجهادي في العالم لابد أن يتوقف إذا ما أرادوا أن تستمر علاقتهم معها، وهذا هو الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الجبهة القومية الإسلامية خاصة عندما دعت إلى تجميع الحركات الإسلامية في الخرطوم في بداية التسعينيات وتبنت شعارات مصادمة للسياسة الأمريكية، وقد عزز ذلك من حالة العداء الأمريكي للسودان الذي بدأ أصلاً مع الدعوة لتطبيق القوانين الإسلامية ومشاركة بعض رموز الجبهة القومية الإسلامية في الحكم في نهاية الحقبة المايوية، وهكذا تواصل التصعيد الأمريكي وبدأت واشنطن تتحدث عن ملفات الإرهاب وحقوق الإنسان والحرب في الجنوب ثم دارفور فيما بعد.
على الرغم من أن بعض الاختراق في العلاقات السودانية الأمريكية قد تحقق خلال زيارات الوزيرين كرتي وغندور، إلا أنني أعتقد أن واشنطن أصلاً لم تكن جادة لفتح صفحة جديدة مع الحكومة، فهي قد أصبح لها قناعات ثابتة بالتخلص من تبعات الحرب الأفغانية والذين تعاونوا معها من الإسلاميين في كل أنحاء العالم الإسلامي، وكانت تشتري الوقت بتقديم إشارات إيجابية للخرطوم كلما حصلت على معلومات في ملف الإرهاب، ذلك لأن العلاقات السودانية الأمريكية من الناحية الأخرى أيضاً مرتبطة بتحالفات أخرى مع دول المنطقة تؤثر وتتأثر بها، كما أن هناك غموضا حول حقيقة تانوايا الأمريكية تجاه السودان بما يوحي أنها غير متحمسة لارتباط السودان بالعالم العربي أكثر من الإفريقي.
زيارة حمدوك خلال الأيام الماضية لواشنطن وصفها المراقبون بأنها زيارة ذات طابع فني ويعتقدون أنها بطلب من السودان ( لا يوجد توضيح من الخرطوم حول طبيعة الزيارة) وقام بعض الوزراء بتوضيح سياساتهم فيما يتعلق بالأديان وتمكين المرأة وتعديل القوانين، ونقطة الضعف في الزيارة أن الوفد لم يلتق بمسؤل أمريكي رفيع مثل الرئيس او وزير الخارجية، فقط وزير الخزانة وربما مسئول الأمن القومي.
انتهت زيارة رئيس الوزراء إلى واشنطن بإعلان أمريكي من وزير الخارجية بمبيو على تويتر بترفيع التمثيل الدبلوماسي إلى درجة السفير، وهو إجراء كانت واشنطن قد خفضته من طرف واحد وقد ظل التمثيل السوداني محافظاً على مستواه ولم يتغيير طيلة فترة العقوبات منذ عهد الرئيس كلينتون الذي وقع قرار العقوبات في ١٩٩٧م، وكانت واشنطن قبلها قد وضعت السودان تحت لائحة الإرهاب قبل ذلك بأربعة أعوام.
الشاهد أن هذه العقوبات قد تواصلت لمدة ربما تصل إلى حوالي ستة وعشرين عاما، ولم تتغير بتغير وتعاقب الحزبين الجمهوري والديمقراطي على الحكم، الأمر الذي يؤكد أن السياسة الخارجية الأمريكية تصنع في أروقة معقدة ليست بالضرورة داخل البيت الأبيض أو الكونجرس، وفي الحالة السودانية تصر واشنطن على معاقبة السودان شعباً وحكومة على عكس التعامل مع دول أخرى مثل الحالة اللبنانية التي تعاقب فيها واشنطن تنظيمات أو أفرادا وليس الحكومة بأكملها أو الشعب اللبناني، العقوبات هنا تفرض بالجملة الأمر الذي أوجد صعوبات لكل الشعب المغلوب على أمره، بينما الدبلوماسيون يمارسون الرياضة في شوارع الخرطوم ويلعبون التنس والجولف في أنديتها .
قضية الحريات والديمقراطية ليست من شروط اللعبة الأمريكية في الشرق الأوسط وأفريقيا، السياسة الأمريكية تقوم على المصالح، وليس من المنظور في الوقت القريب أن تكون هناك مصالح حيوية لواشنطن في السودان لذلك يحتاج السودان إلى البحث عن طعم يمكن أن يجعل واشنطن تقترب منه أكثر، أو اوراق ضغط قوية لن يجدها إلا إذا خرج من الدائرة الإفريقية في وزارة الخارجية وعاد بقوة أكبر إلى الدائرة العربية في الوزارة والتي تشارك بقوة في صنع السياسة الخارجية الأمريكية، رحم الله السفير عمر صالح عيسى.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.