العين الثالثة…ضياء الدين بلال

(الأسرارُ الكبرى)!

-1-
ما بثتهُ قناةُ العربية في برنامج على أجزاء، من داخلِ اجتماعات شورى الحركة الإسلامية، خبطةٌ إعلاميةٌ بكل المقاييس.
كلُّ القنوات تسعى للحصول على ما يدورُ في الاجتماعات السرية، وغيرها من معلوماتِ الغرفِ المغلقة.
ومن ثم تتعاملُ معها وفق سياستها التحريرية، بوضعها في سياقٍ سياسيٍّ يخدم خط القناة.
من الواضح أن الهمَّ الأكبر لقناة العربية، كان ربطُ الحركة الإسلامية السودانية بالتنظيمِ الدولي لجماعةِ الإخوان المسلمين، لغرضٍ يتجاوزُ حدود وقضايا السودان.

-2-
البعضُ يقللُّ من أهمية ما جاء في التسجيلات باعتبار أن غالبَ المعلومات الواردة متاحةٌ على نطاق واسع، في متناول الأيدي وأطراف الألسن.
بل بعضها معاشٌ للسودانيين وحاضرٌ في يومياتهم السياسيةِ الشفهيةِ والمكتوبة.
بعضُ الإسلاميين ارتقى بتلك الإفادات مراقيَ الفضيلة، بوضعها في مقامِ النقدِ الذاتي.
من وجهةِ نظري ما قيل في تلك الاجتماعات خطيرٌ ومهم، فهو بمثابةِ إدانةٍ سياسيةٍ وأخلاقية، عبرَ الاعتراف عن أخطاءٍ وتجاوزات، كانت نتيجتُها النهائية سقوطَ النظام معنوياً، قبل سقوطه فعلياً في أبريل الماضي.

-3-
حتى ولو أن ما قيل معروفٌ للكافة، فإن تلك المعرفةَ كانت بين الظن واليقينِ وقابلةً للإنكارِ والتبريرِ وحسنِ التعليل.
أما أن يتمَّ الاعترافُ بها على ذلك المستوى القياديِّ الرفيع وبتلك الصراحةِ والوضوح، فتصبحَ حقائقَ دامغةً وليست اتهاماتٍ شائعة.
ولا يمكنُ النظرُ إليها واعتمادها كممارسةٍ لفضيلة النقد الذاتي، فتلك الممارسةُ فعلٌ علنيٌّ تطهري، يأتي مقروناً بإحداثِ مراجعاتٍ عمليةٍ في واقع الممارسة، وذلك ما لم يحدثْ إلى أوان السقوط !
من الراجحِ أن التنظيمِ في مستواه القيادي، كان يعي بفداحةِ تلك الأخطاء وخطورةِ التجاوزات على راهنهِ ومستقبلهِ ولكنه كعقلٍ جمعيٍّ كان عاجزاً عن الإصلاحِ والتصحيحِ وربما غيرَ راغبٍ في دفعِ المستحقات!

-4-
إذا تجاوزنا الألوانَ والأصباغَ التي وضعها كاتبُ السيناريو على الإفادات ووضعها في السياقِ الذي يخدمُ أجندته، يبدو أن بعضَ الإفادات جاءت لإقناعِ أصواتٍ كانت ترى بأن أمرِ الدولة خرج من سيطرة الحركةِ الإسلاميةِ لصالح البشير أو العسكر.
في الفترةِ الأخيرة مع اقترابِ البشير من المعسكرِ السعودي الإماراتي المصري، راجَ في اوساطِ الإسلاميين أنهم سيكونون ضحيةً لتلك العلاقة، فأراد البشيرُ طمأنتَهم بأن السلطةَ لا تزال في أيديهم!
فخرجت الإفاداتُ من حيز المعالجاتِ الظرفية، لسجل التاريخ!

-5-
القاسمُ المشتركُ لتلك الإفاداتِ هو الاعترافُ بشيوعِ الفسادِ والمحسوبيةِ في أجهزة الدولة.
لكن الخطأ الذي وقع فيه المتحدثون، ظنُّهم أن الفسادِ المشار اليه تجاوزاتُ أفراد، وليس مترتباً موضوعياً لفسادِ علاقة –غير شرعية – بين تنظيمهم والدولة!
أسُّ الفسادِ في النظام السابق:
الاحتكارُ المطلق للسلطة والتعاملُ معها كغنيمةٍ في حربهم وصراعهم مع القوى السياسية.
بحثاً عن تمكينٍ سياسيٍّ مستدام، أزالوا الفواصلَ الإدارية والحواجزَ القانونية بين الحركةِ و(حزبها الحاكم) ومالَ الدولةِ العام.
ومنحوا عضويتهم فائضَ ثقةٍ في (الْغَرْفِ) من الوعاء العامِ للوعاءِ الحزبي، دون مراقبةٍ ومحاسبة.
فماذا حدث؟!
العضوُ المستخدمُ في عمليات (الْغَرْفِ) الجائر، انكسر لديه الحاجزُ الأخلاقيُّ والنفسيُّ في التعامل مع المال العام.
فوضع نفسه كطرفٍ ثالثٍ في المعادلة، فبات يغْرِفُ من وعاء الحزب والدولة لوعائه الخاص!

-6-
لذا تمكن الفسادُ وتحوَّلَ من تجاوزاتِ أفرادٍ إلى عمل جماعي مُنظَّم، وذلك لضعف منظومة النزاهة، وعدمِ وجودِ المُحاسبة الدقيقة والعقاب الرَّادع.
استمرارُ ضعف منظومة النزاهة وانخفاضُ مستوى الشفافية، هما ما يجعلان بيئة الدولة حاضنةً جيِّدةً للقطط السمان وفئران الخراب.
الخطأ الآخر الذي ظَلَّتْ تقع فيه الحكومةُ السابقة، أن تجاوزات منسوبيها – في كل مستوياتِ إدارة شأن السلطة – كانت تُرحَّلُ (للحساب العام) ولا يُسدِّدُها المُخطئون من حساباتهم الشخصية بالجزاء والعقاب.
وأفضلُ تلخيصٍ توصيفيٍّ لهذا الأمر، ما قاله الأستاذ المحامي الإسلامي أمين بناني، في حوارٍ صحفي أُجري معه عندما كان يشغل منصبَ وزيرِ الدولة بوزارة العدل.
قال بناني، إن الحكومة كانت دوماً تسعى لمُمارسة (فضيلة الستر) مع أخطاءِ وتجاوزات منسوبيها ولكنها – من حيث لا ترغبُ – وقعت في (جريمة التَّستُّر).
أخيراً-

أهمّ درسٍ للقوى السياسية من تجربة الإنقاذ:
الفسادُ لا ينتقل عبر الجيناتِ السياسية، الفسادُ جرثومةٌ عابرةٌ للتنظيمات، يحتاجُ بيئةً مواتيةً ومناعةً ضعيفة، حتى تفتكُ بالأجساد!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.