الرواية الأولى…مجدي عبد العزيز

مركزية فاشلة

تتواتر الأنباء هذه الأيام تباعاً عن قرب إحلال ولاة مدنيين بديلاً عن الولاة العسكريين الذين يحكمون ولايات السودان حالياً والذين فرضهم واقع التغيير منذ أبريل من العام المنصرم، وتتأرجح مسببات هذا الإحلال بين دعاوى تنفيذ بنود الوثيقة الدستورية وإكمال هياكل الحكم الانتقالي (الناقص) وبين القدح الزائف في عدم قدرة (العساكر) على تسيير أمور هذه الولايات إضافة إلى أسباب أخري تتسرب وتترجم أنه ما زال في ( الكيكة بقية) يمكنها أن تسد أفواه من لم يجدوا نصيباً في التوزيع الأول لحصة السلطة من تيارات وشخوص الحاضنة السياسية .
شهدت مسيرة الحكم اللامركزي في السودان تطوراً عظيماً وكبيراً في الهيكل وفي الجوهر منذ عهد المديريات والمحافظات ثم تجربة الحكم الإقليمي في عهد مايو إلى ثورة الحكم الاتحادي الفدرالي التي ظلت ماثلة دستورياً وقانونياً حتى الآن، وفي كل مرحلة من مراحل هذا التطور كانت تتحقق المكاسب المضطردة لمسيرة الحكم في البلاد وخاصة في أطراف البلاد التي أحس مواطنوها بقصر الظل الإداري ثم كسبهم الأكبر في حكم أنفسهم بواسطة هياكل حكمهم الولائي وإدارة شؤونهم وخدماتهم المحلية رغم وجود الطبيعي من السلبيات التي تكتنف أي تجربة إنسانية، وبذلك تنزلت إلى الحد البعيد فلسفة اللامركزية وتعميقها التي صارت أيضا عاصماً من الاحتجاجات والتمرد على السلطة المركزية بسبب التهميش – اللهم إلا من دواعٍ صراعية وسياسية أخرى وبتدخلات خارجية .
شهد القسم المنصرم من الفترة الانتقالية في شأن التعاطي مع الحكم الولائي حالة من (الربكة) المبررة في فترة ما بعد التغيير ( المجلس العسكري) إلى مرحلة إجازة الوثيقة الدستورية وتشكيل الحكومة الإنتقالية، وفي اعتقادي أن مبررات تلك المرحلة قد انتفت لتدخل البلاد في مرحلة الإرباك هذه المرة – بفعل فاعل – بعد تشكيل الحكومة، فالهواجس جعلت أركان السلطة التنفيذية يجنحون إلى مركزة القضايا والأنشطة والخدمات وحرمان الولايات من ممارسة استحقاقاتها مما عمق مظاهر الأزمات الماثلة أصلاً، وبذلك أطلت رؤوس الفشل على مسيرة حكم الولايات، وما صرح به الوالي العسكري لولاية النيل الأبيض اللواء الركن حيدر علي الطريفي الذي سلم مهامه إلى الأمين العام للحكومة التنفيذي من تصريحات نارية ضد الجهاز التنفيذي ( المتمركز ) وأن الولاية لم يزرها أي من الوزراء الاتحاديين منذ تشكيل الحكومة للوقوف على أحوالها أكبر مثال على حالة الفشل التي بدت تسري في الولايات .
عدد من القرارات والتصرفات أدت إلى نزع حقوق الولايات ( المقننة ) في إدارة شأنها وتسيير مهامها كمنح وزير الصحة الاتحادي حق إعفاء وتعيين المديرين العامين لوزارات الصحة الولائية رغم أنف الولاة المسئولين مسئولية مباشرة عن تنفيذ الخطط المرسومة وحسن الأداء لحكوماتهم وبالتنسيق المعلوم مع المركز ـ هذه القرارات والتصرفات وجهت ضربة قوية جعلت الحكم الولائي يترنح إزاءها.
ما الذي يجعل وزير التجارة والصناعة الاتحادي يغرق في إدارة أزمة كأزمة الخبز بصورة مركزية طغت على دور الولايات الأصيل في إدارة الخدمات ومعاش الناس – ودوره الاتحادي المعلوم مفصل في السياسات والتخطيط والدعم والإمداد المركزي للولايات بحصصها المقررة من السلع؟ التفاصيل المملة المركزية التي أدار بها الوزير الأزمة أدت حتى إلى خلق إنطباع بأن الوزير لا يعرف مواطناً غير مواطن الخرطوم فبروز حركته إزاء مخابز أحياء الديم والرياض وبري مع لجان المقاومة هي التي توحي إلى مواطن سرف عمرة أو الحواتة أو أم رمتة أو الدلنج بالتهميش وعدم الاهتمام لبعده عن المركز .
أنباء داخل وزارة الشئون الدينية والأوقاف تفيد بأن وزيرها ( المفرح ) خطا خطوات كبيرة في نهج مركزة الملفات كالأوقاف وقيل الزكاة ( رغم علمنا بتبعيتها للرعاية والضمان الاجتماعي ) ولكن أخطرها هو ملف الحج والعمرة الذي تطورت الخدمات فيه باضطراد بعد أن شرعت الولايات في الإدارة الشاملة لشأن حجاجها ومعتمريها في الفترة الماضية ـ أما نهج الوزير المتداول الآن فسيفجر أكبر الأزمات بتدخله في حصص الولايات الممنوحة لأعداد الحجاج وسيوقع خللاً وظلماً إذا حرمت ولايات من نصيبها المقرر إلى صالح أخريات أو مجموعات بمزاج الوزير، وقد بدأ فعلا العطب في هذا الملف بدليل الوفد الذي غادر إلى المملكة العربية السعودية أمس.
إذا تم الشروع في تعيين ولاة الولايات المدنيين في ظل نزع سلطات واستحقاقات الولايات بهذا النهج الذي يسير فليعلم الولاة الجدد أنهم منحوا ( حبالا بلا بقر ) وأن فترة حكمهم ستكون عبارة عن تجاذبات وتقاطعات مع المركز دون أن ينجزوا شيئاً واحداً، والأدهي والأمر سيكون السير في انهيار فلسفة ومنظومة الحكم الفدرالي التي ستجعل المواطنين يعيشون التهميش حقيقةً وواقعاً ….وإلى الملتقى

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.