شيء من الفكر وقليل من السياسة … الهندسة الاجتماعية وإعادة إنتاج الأسئلة

خالد موسى دفع الله

لم يعتذر الكاتب والمفكر المصري الكبير محمد حسنين هيكل وهو يقدم مراجعاته الفكرية قبل وفاته عن مقولته السائدة إن السودان “محض جغرافيا” فقط..إذ كان شديد التيقن أن مرتكزات الدولة القطرية في السودان لم تولد بعد ، إذ إن السودان حسب رؤيته عبارة عن قبائل وطوائف متحالفة في ظل الصراع على السلطة. و لم يبعد الإمام الصادق المهدي النجعة حسب رؤية مثقف مصري آخر وهو يؤكد أن صيرورة الدولة الوطنية في السودان لم تكتمل بعد.
يرى الكاتب والأكاديمي الأمريكي روبرت كرامر في كتابه ” أم درمان مدينة مقدسة على النيل” أن الخليفة عبد الله بذل جهداً مقدراً في ربط القبائل بالتصاهر، إذ ظل يطلب حثيثاً عقد الزيجات العابرة للقبائل والإثنيات خاصة بين أسر أبكار وقادة المهدية، ووصل به الأمر أن طلب من سلاطين باشا الزواج من ابنة عمه. ويؤكد كرامر أن الخليفة نجح في منحى آخر أكثر أهمية وهو تفتيت مركزية الموارد و رأس المال و ريع الدولة لقاعدة أوسع من الناس. ولا شك أن ما ذكره كرامر يشير إلى أن الخليفة عمل على توسيع رقعة التصاهر الاجتماعي لحماية دولته عبر توسيع تحالفاته مع القبائل المختلفة عبر الزواج، رغم عسفه المعروف على بعض القبائل التي استبطأت مبايعته مثل البطاحين الذين نكل بهم وصارت أقاصيص شجاعتهم مضرب مثل في الصبر على التعذيب والبسالة. وترى هيذر شاركي في مراجعتها لكتاب كرامر أن تكوين مدينة أم درمان نبع في جزء منه على التهجير القسري للسودانيين من غرب السودان ومناطق أخرى وكذلك من مدينة الخرطوم حيث أمر الخليفة بإخلائها من السودانيين باستثناء بعض الأسلحة بعد شهر واحد من تسلمه زمام السلطة بعد وفاة المهدي.

مع بروز عوامل اجتماعية وثقافية جديدة عبر الحراك الثوري الذي أنتج التغيير في البلاد كان لا بد من إعادة موضعة الأسئلة حول العامل الديمغرافي
في محاولة لفهم أبعاد الظاهرة و تحليل البنية الاجتماعية في السودان باعتبارها مدخلاً للنظر العميق في الإشكالات
التاريخية وبناء الدولة الوطنية.
سادت من قبل في أدائيات الفعل السياسي بروز الرافعة القبلية لواجهة الممارسة السياسية والاجتماعية في البلاد، و صوّر لنا الخطاب السياسي من مختلف المنازع والمصادر أن إشكالات السودان ليست في تكوينات بنيته الاجتماعية ولكن في معالجة قضية إدارة الموارد والعدالة في توزيع الثروة والسلطة.
إن أكبر الاختلالات التاريخية في بنية المجتمع هي قيام الدولة والسلطة بدور الهندسة الاجتماعية بعد أن كان القادة الدينيون ومشايخ الطرق الصوفية والمصلحون الاجتماعيون والقادة السياسيون والنخب الواعية في المنظومة المدنية صاحبة القدح المعلى في بناء الوعي وتشكيلات الهندسة الاجتماعية استثماراً في الولاء القبلي أو الديني أو الحداثوي. وقد نازعت البندقية والحرب سلطة الدولة في تأثيرها على الهندسة الاجتماعية بدافع خلخلة البنى التقليدية القديمة.
إن مشروع الدولة الوطنية الذي نادت به الكتل التي قادت التغيير في السودان يرتكز على بناء دولة وطنية ديمقراطية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات على قاعدة المدنية العلمانية الشاملة. لكن هذا المشروع يكتنفه الغموض النظري، لأن تحديات إعادة بناء الدولة يستوجب الإجابة على أسئلة أساسية تم إرجاؤها ليجيب عليها المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية. كما أن المشروعات الفكرية لمختلف الكتل السياسية لا تقدم إجابات نموذجية على أسئلة الهوية والحكم والثقافة والمجتمع. لكنها تملك أدبيات وافرة في المقاومة والنضال السياسي.
لعل في مفاوضات السلام الجارية الآن في جوبا مصادر معرفة جديدة لهذه الجراحات التاريخية، وعليه فإن تسويات السلام التي تعتبر المرتكز الأول للدولة الوطنية. يجب ألا تنحصر في محاصصات السلطة والثروة فحسب، بل تشمل تأسيس بنيات العدالة السياسية حسب تعبير د. محمود ممداني حتى لا تتكرر الظلامات الماضية في سيرورة تاريخ السودان الحديث.
إن التحدي الذي يواجه الحاضنة السياسية التي قادت التغيير هو إنجاز توافق سياسي شامل يسهل عملية الانتقال الديمقراطي. وإعادة بناء دولة مركزية قوية لها القدرة على صوغ الولاءات القطاعية والجهوية الفئوية في إطار قومي جامع ربما على النحو الذي ابتدره الراحل د. جعفر محمد علي بخيت.
لعل تجربة الدكتور مهاتير محمد رئيس دولة ماليزيا منذ ،كتابه الباكر (مشكلة الملايو) تستحق النظر رغم ما سببته له من متاعب قادت إلى تعليق عضويته في الحزب. وهذا الكتاب الذي اشتمل على نقد عميق لسلوك الملايو أبناء الأرض وقدرتهم التنافسية مع القوميات الوافدة من الصينيين والهنود أدى إلى إحسان صيغة قسمة المشاركة في الثروة والسلطة في ظل وجود أغلبية سكانية مستضعفة في إطار الشراكة التاريخية لحزب التحالف العريض (امنو) الذي أقر التمييز الإيجابي للأغلبية من قومية الملايو في الاقتصاد والتعليم ومؤسسات الدولة .
ارتبط مفهوم الهندسة الاجتماعية خارج حيّز العلوم السياسية في ظل ثورة انفجار المعلومات بأنه القدرة للسيطرة والتأثير على سلوك وعقول الأفراد للإدلاء بمعلومات سرية للحصول على بيانات أو اختراق نظم المعلومات مما يجعلها أكبر مهددات الأمن المعلوماتي. أما في مجال العلوم السياسية فهي القدرة على تغيير آراء أو سلوك الجمهرة الشعبية العريضة تجاه قضية وموضوع معين أما بالحملات أو ابتداع القوانين والنظم الحكومية الرسمية. وعادة ما تقوم الحكومات بدراسة الظواهر الاجتماعية عن طريق الإحصاءات والبيانات وجمع العينات وتحليل السلوكيات حتى تهتدي إلى أنجع السبل للتأثير الجماعي على سلوك وقناعات الشعب. وقد أشار لذلك بتوسع مفيد فرديناند توريس في كتابه ( مشكلة البنية الاجتماعية).
في التقرير الذي أصدره البنك الدولي عن مشروع الجزيرة في العام ٢٠٠٥ أشار إلى اختلال علاقات الإنتاج بتأثير العامل الديمغرافي للعمالة الوافدة، ولعل أصدق الأوصاف للوضع الراهن أن السودان يعاني من فوضى ديمغرافية بما يعني غياب رؤية شاملة للهندسة السكانية لتكوين هوية قومية جامعة للنسيج السكاني المتنوع في السودان، لكن يكمن التحدي الأساسي أن الكتلة السكانية متغيرة وليست ثابتة نسبة لعامل الهجرات والتدفقات المستمرة من دول الجوار والمحيط الإقليمي. وكانت مركزية الثقافة السودانية من قبل تجعل من السهولة استيعاب هذه التدفقات السكانية في مصهر قومي يعطيها المزاج والملامح السودانية وشخصيته القومية، أي بلغة أخرى إن عوامل الإندماج والاستيعاب الثقافي للتدفقات الوافدة كانت أقوي من الحاضر الراهن، وزاد من قدرة المجتمع السوداني على استيعاب هذه التدفقات هو وجود دولة مركزية قوية لها القدرة على إدارة التنوع عبر النظم والمؤسسات وتنظيمات المجتمع المدني. وقد مسّ من قبل الدكتور جعفر محمد علي بخيت عَصّب هذه القضية في ورقته ذائعة الصيت عن تنازع الولاءات الفئوية والقبلية وأهمية وجود دولة مركزية قوية لصهر تلك الولاءات.
إن أخطر ما يواجهه السودان في مشروع بناء دولته الوطنية إضافة لعوامل السياسة أي التداول السلمي للسلطة والاقتصاد في مرحلة ما بعد الثورة هو اختلالات البنية الديمغرافية وهي ليس ما يسميه المثقفون قضية الهوية ، وما أعنيه بذلك أن السودان ظل عرضة لتدفقات هجرية كثيفة من دول الجوار والمحيط الإقليمي وأصبح هؤلاء بحكم نشاطهم الاقتصادي خاصة في القطاع الزراعي جزءاً أصيلاً من تكوينات المجتمع السوداني بعد تراكم عدة أجيال ، لكن مع استمرار هذه التدفقات وغياب رؤية نافذة لاستيعابها ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ستكون قنبلة موقوتة خاصة إذا علمنا أن سياسات الدول الأوروبية لمحاربة الهجرة غير الشرعية تقوم على التوطين، مما يعني تقديم الدعم لهؤلاء الوافدين دون النظر لاحتياجات المجتمعات المستضيفة. إن استحقاقات السلام تستوجب معالجة مشكلة النازحين، مما يعني انزياحات جديدة في الكتل الاجتماعية وإعادة إدماجها مجدداً في نطاقات حضرية جديدة. بما يحقق العدالة و ينال رضاء الضحايا عبر التسويات والتعويضات وجبر الضرر.
إن عودة قادة الحركات المسلحة عبر تسويات السلام الجارية لا تعني البتة انتصارهم السياسي وتحريز نسبة من كيكة السلطة، بل يجب أن تكون عودتهم ناجزة لرتق النسيج الاجتماعي الممزق، وتجاوز مرارات الحرب ونشر التسامح عبر تدابير العدالة الانتقالية كما أن إدماج قوات الحركات في القوات النظامية عبر الترتيبات الأمنية أو إعادة إدماجهم اجتماعياً يتطلب رؤية وإرادة سياسية وافرة لأن تلك العودة ستحدث هزة اجتماعية وسياسية وستتبدل فيها المواقع والمواقف.
لذا لا بد من اهتبال سانحة السلام والتحول الديمقراطي لإعادة النظر في التحولات الديمغرافية بما يحقق الاستقرار.
لا توجد في السودان في الوقت الراهن استراتيجية كلية تحدد أهداف الدولة والمجتمع في القضية الديمغرافية ، ورغم توفر المؤسسات الوطنية للإحصاء والسكان على بيانات وافية إلا أنها تفتقر إلى استراتيجية جامعة لإدارة السكان في إطار من التنوع والتنمية البشرية والعدالة في توزيع الموارد.
ولا يقف العامل الديمغرافي على التدفقات الوافدة من المحيط الإقليمي بل إن قضيته الحقيقية هي حركة النزوح الداخلي بسبب آثار الحرب الماضية وتفكك بنية الاقتصاد الريفي. ولعل أخطر المؤشرات هو أن الحرب كانت في الماضي هي المؤثر الأول في الهندسة الاجتماعية في السودان بسبب النزوح الداخلي الذي انتزع كتل سكانية معتبرة من جذورها الاجتماعية ووطنها في بيئة جديدة لا تتوفر فيها الظروف الملائمة للإنتاج. ونجم عن ذلك وجود مجتمعات من الهامش حول المراكز الحضرية خاصة ولاية الخرطوم ، وأكد مسح لغوي تم اجراؤه في حي الإنقاذ بالخرطوم أن أهل الحي يتحدثون ٢٦ لغة مختلفة مما يعكس التنوع الثقافي واللغوي والاجتماعي. لكن هل توجد استراتيجية لإدارة هذا التنوع.
ويتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ما هي أهم المؤثرات والعوامل في الهندسة الاجتماعية والديمغرافية في السودان؟
يكشف السياق التاريخي لبنية الدولة والمجتمع في السودان أن القادة الدينيين والمصلحين الاجتماعيين خاصة مشايخ الطرق الصوفية كان لهم القدح المعلى في ذلك. فمنذ عهد الدولة السنارية وقدوم الشيخ تاج الدين البهاري وقيام الطرق الصوفية شهد السودان تحولات عميقة في بنيته الاجتماعية.
يضاف إلى ذلك عامل الدولة الرسمية فالسودان الحديث جغرافية وتاريخاً هو نتاج غزو محمد علي باشا للسودان وتكوين نواة الدولة الأولى، لكن جاء مشروع الدولة المهدية ليشكل أكبر عوامل الهندسة الاجتماعية للسودان المشهود إذ نجح في صهر الولاءات القبلية والجهوية من أجل التحرر الوطني والنهضة والإصلاح الديني حسب رؤية مؤسسة .
وحسب المقاربة التي ابتدرتها الدكتور النور حمد حول أثر العقل الرعوي في مناهضة المدنية والحداثة ومشروعات النهوض الوطني فإن العقل الرعوي الجمعي هو العامل الأكثر تاثيراً على تكوينات الثقافة السودانية بأثر انقطاعه عن مصادر الإلهام الحضاري في الدولة الكوشية القديمة.
هل يحمل مشروع التسويات السياسية والسلام والتحول الديمقراطي أي مرتكزات لإعادة تركيب البنية الاجتماعية بما يخدم مشروع الدولة الوطنية، أم أن ما يجري محض تدابير لإنهاء حالة الحرب، والاتفاق على محاصصات المشاركة في السلطة.
إن السكوت على مناقشة العامل الديمغرافي في إطار إدارة التنوع سيما بعد السلام مع توقعات عودة اللاجئين وإعادة توطين النازحين ودخول عدد كبير من قوات الحركات المسلحة إلى المدن والقرى، يضاف إلى ذلك التدفقات الهجرية الوافدة من دول الجوار واحتواء الآثار السالبة لحركة النزوح الداخلي خوفاً من تراكم حزام من الهامش حول المراكز الحضرية دون تمكينها من امتيازات الحياة الحضرية في التعليم والاقتصاد وحركة المجتمع ستكون له آثاراً وخيمة على المدى الطويل، خاصة وأن مصاهر الولاءات القومية بوجود دولة مركزية راسخة وثابتة كانت هي أهم عوامل الاستقرار .
وبدلاً عن عوامل الهندسة الاجتماعية المتدرجة والطوعية التي كانت قوم على التصاهر والولاءات والتساكن وحراك المجتمع المدني صارت الدولة بحزمة القوانين والنظم وتنظيمات الاقتصاد هي العامل الأوحد في ذلك، نافسها في ذلك عامل آخر هو الحرب والبندقية، إذ تقوم حركات الكفاح المسلح حسب المصطلح الرائج بفرض أجندة الهامش في قلب المؤسسة الاجتماعية والسياسية في السودان.
عليه فإن سانحة التحولات الراهنة في قضايا السلام والتسوية السياسية والتحول الديمقراطي يمكن أن تمثل إطاراً مناسباً لإعادة النظر في شأن الخارطة الديمغرافية ودورها في بناء الدولة الوطنية وفق أسس التنوع الإثني والثقافي والديني التي ترتكز على قاعدة المواطنة في الحقوق والواجبات.
في حديث ثقافي عميق مع باحثة أنثروبولوجية من أوروبا الغربية قالت لي إن أحد أهم أدوار المرأة في السودان التي تعكس قوتها الحقيقية هي أنها تلعب دور المهندس الاجتماعي الخفي لأنها هي التي تقوم باختيار الزيجات وعلاقات التصاهر .
وهي من أهم أركان المؤسسة المدنية والاجتماعية في السودان.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.