حبة رابعة في مشروع الخلاص الوطني

(1)
مصطلح الدولة العميقة كان أول ظهوره في تركيا، لأن الدولة في تركيا ومنذ عهد أتاتورك كان مناطا بها تنفيذ الحداثة بالفهم الأتاتوركي، وهو يقوم على التوجه نحو المنجز الأوروبي الغربي بالكامل ماديا ومعنويا – أي التغريب والتحديث وقطع أي صلة بالشرق بما في ذلك الحرف العربي والطربوش. وظلت الدولة في تركيا وفية لهذا التوجه إلى أن ظهر مفكرون قامت على أفكارهم الأحزاب الإسلامية هناك مثل أحمد داؤد أوغلو، وظلت الدولة تعيق التوجه الجديد فأسموها بالدولة العميقة . وأول من استخدم هذا المصطلح في الصحافة العربية هو الأستاذ فهمي هويدي . أما في الصحافة السودانية فيرجع الفضل في إدخاله لصديقنا الأستاذ محمد عثمان إبراهيم (مو). وبعد ثورة ديسمبر راج المصطلح رواجا كبيرا وأصبح ينسب للدولة العميقة كل تعثر.
(2)
في تقديري أنه يجب أن نفرق بين الدولة والحكومة أولاً فالدولة كمصطلح له عدة دلالات منها أنها هي الجهاز البيروقراطي الذي يشمل كل منسوبي الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري وهذا الجهاز يقوم الدخول فيه على قواعد موضوعية ليست مفصلة على جهة معينة، فمثلا يدخل الإنسان في السلك القضائي أو الجيش أو الشرطة أو التدريس أو الطبابة بناء على مؤهلات محددة سلفاً، ثم البقاء في الخدمة والترقي والفصل والحقوق كل هذا محدد الى أن يصل الموظف المعني لرئاسة القضاء أو قيادة الجيش او وكيل الوزارة او رئيس الجامعة، أما الحكومة فهي الهيئة السياسية التي تأتي بتفويض من الشعب وتتكون من رئيس الحكومة والوزراء وحكام الأقاليم وأعضاء البرلمان، أي ما نطلق عليهم الدستوريين وهؤلاء ليست هناك قواعد موضوعية لتعيينهم، إذ تعينهم الجهة المفوضة شعبياً. فالحكومة والدولة خطان متوازيان هذا طبعا من ناحية نظرية.
(3)
ترك الإنجليز في السودان حكومة ودولة في غاية التوازي، ولكن في الحكم الوطني حدث التدخل والتداخل بالمحسوبية والرشوة واتفاقيات السلام والذي منه. أما الإنقاذ فقد توسعت في ذلك الانتهاك بهدف التمكين ولكن الأخطر من هذا حدث تداخل بين السوق والدولة والحكومة، فتكونت طبقات مصالح أي كارتيلات فكان كارتيل القمح والدقيق والسكر والبترول والذهب والعملة وكل الذي منه, وأي من هذه الكارتيلات يبدأ بزول سوق ثم مسهل حكومي ثم منفذ من الدولة أو العكس. وتعملقت هذه الكارتيلات وأصبح لها وجود وكيان مستقل لا بل علاقات بالشبكات الدولية (لقد استفادت هذه الكارتيلات من المقاطعة الأمريكية والمحكمة الجنائية فائدة عظمى، وهذه قصة أخرى)، وهي الآن لا تحتاج الى حكومة والى دولة ولا تعرف إلا مصالحها، وعندما أفاقت الإنقاذ في آخر سنواتها والتفتت لتلك الكارتيلات وأرادت التخلص منها مدت لها لسانها, واستطاعت إسقاط حكومة بكري حسن صالح وحكومة معتز موسى وهي الآن تمد لسانها للثورة قائلة طبعوا مع العالم وأخرجوا البلاد من العزلة لتتدفق الأموال ونشبع ونديكم معانا، ودقي يا مزيكا.
فيا ثوار ديسمبر يا صناع المجد، السهام المصوبة للدولة العميقة سهام طائشة لأنها أصلاً غير موجودة، فالسهام يجب أن تصوب لمجموعة المصالح الذاتية (الحرامية الجد). فهل من مليونية هدفها إغلاق البلاد على نفسها كي تجمع قواها وتقطع دابر جماعات المصالح الذاتية ثم تنفتح على الخارج، فأي انفتاح في هذا الظرف لن ينال الشعب منه إلا الفتات، فطهروا البلد من الحرامية أي الكارتيلات أولاً، وخليكم معنا إن شاء الله.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.