نصف رأي || خالد التيجاني النور

الخطاب العام المفقود

شارك الخبر

(1)
ثمة مشكلة تواصل بيّنة بين الحكومة والرأي العام لا تخطئها العين يبدو أنها تتحول تدريجياً لتصبح حالة مرضية مزمنة، ليس بسبب صعوبة علاجها، ولكن لأن أصحاب الشأن لا يكادون يلقون بالاً على كثرة الشكوى في هذا الخصوص بالرغم منتكرار الدلائل المشيرة لذلك وآثارها السلبية الواضحة في البلبلة والاضطراب الذي يسود الفضاء العام جراء تواتر إطلاق تصريحات غير موفقة لمسؤولين رفيعين في مواقع مختلفة، أو لعدم الوعي بدرجة كافية لخطورة ترك صناعة الرأي العام لهواة غير مختصين لا تتوفر لهم المعرفة والخبرة والدربة الكافية في هذا المجال الحساس بالغ الأهمية.
(2)
لا شك عندي أن أسوأ وسيلة لمخاطبة الرأي العام لإحاطته وتنويره بأبعاد القضايا ذات الاهتمام هي عقد المؤتمرات الصحافية على النحو الذي تجري به كما شهدنا في عدد منها خلال الفترة السابقة، آخرها بشأن فيروس كورونا، وانتهت إلى نتائج عكس المأمول منها، ويوازيها سوءً العدد المهول من الحوارات والتصريحات الصحافية التي يدلي بها المسؤولون بمناسبة وبغير مناسبة حتى اختلطت على عامة الناس الإفادات، وكثرة الكلام تنسي بعضه بعضاً.
وولع السياسيين وكبار المسؤولين باستسهال الحديث لوسائل الإعلام والتدافع للظهور أمام الكاميرات داء قديم موروث في الشأن العام السوداني، ولا أدري من أين جاءت هذه اللوثة التي لم ينجُ منها إلا القليل بالظن أن الشخصية العامة لا تكتسب أهمية أو مكانة في الفضاء العام إلا إذا اسرفت في الإدلاء بالتصريحات والظهور في شاشات التلفزة بغير حساب.
(3)
حسناً، لا أحد بالطبع يريد أن يكون المسؤولون صما بكما لا يفصحون، ولكن لكل مقام مقال، ولكل مجال أهل اختصاص، فإن كان المسؤولون يمتلكون المعرفة والخبرة الفنية في مجال تخصصهم، وهم بذلك مؤهلون ليخاطبوا نظراءهم بلغة مشتركة في مجال يجمعهم، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم لمجرد امتلاك هذه المعرفة وتولي المسؤولية يستطيعون أن يخاطبوا الرأي العام كما يجب أن يكون الخطاب لتحقيق الصالح العام، فالإعلام والاتصال علم له أصول وقواعد ووسائل تتوخى أن ينهض بها ذوو المعرفة والخبرة والممارسة المهنية المحترفة، ونسمع أحياناً بعض المسؤولين يُظهرون استياءً من تغوّل من هم ليسوا ذوي اختصاص من الإدلاء برأيهم في بعض قضايا الشأن العام، ولكنهم ينسون ذلك عندما ينبرون لمخاطبة الرأي العام دون أن يمتلكوا الخبرة والدربة المطلوبة لذلك، فيكون ضرر حديثهم أكثر من نفعه.
(4)
وثمة أمثلة كثيرة يمكن سوقها في معرض ما ذكرناه آنفاً، فالحكومة إما تجدها صامتة والأحداث حولها تغلي والأحوال تصعب، فيحار الناس إن كانت مدركة لما يجري أم يحار بها الدليل فلا تدري ما تقول، أو يعنّ لها أن تشن غارة على الرأي العام بخطاب منتصف الليل دون مسوّغ، فتثير استياء الناس وربما تندرهم. وخسرت الحكومة معركة كسب قلوب وعقول الناس لصالح برنامجها الذي تأمل به إصلاح حال الاقتصاد لأنها أغفلت تماما استصحاب استراتيجية مدروسة لخطاب العام جاذبا لاهتمام وحماس قاعدة التغيير الثورية العريضة لأنها وضعت العربة أمام الحصان واعتبرت أن مجرد الإدلاء بالمقابلات والتصريحات الصحافية ستكون كافية بلا هدى من رؤية تصوب نحو الأهداف الكلية، وترتب الأولويات، وتركز على النتائج المرجوة، فتحوّلت الأنظار من قضية الإصلاح المركزية، وتعظيم الإنتاج وتعزيز تنافسية الصادرات، إلى جدل عقيم حول مسألة فرعية، رفع الدعم، التي لا تعدو أن تكون نتيجة عرضية تابعة وليست سبباً أصيلاً في انهيار مؤشرات الاقتصاد الكلي.
(5)
على كثرة النصح الذي تلقته الحكومة لتحسين قدراتها في التواصل مع الرأي العام وإدارة الحوار المجتمعي، وهي فقرة ظلت ثابتة في البيانات الختامية لاجتماعات أصدقاء السودان، فإنها لا تزال تتعامل مع ذلك بقدر غير قليل من الاهتمام، تاركة ذلك لمبادرات فردية ومغامرات هواة، فهي لا تملك حتى اليوم استراتيجية إعلامية شاملة ذكية وفعالة للتواصل مع الرأي العام تقوده إلى آفاق التغيير الرحبة، وتكتفي بخطاب يطارد الأزمات، وليت وزير الإعلام والثقافة الأستاذ فيصل محمد صالح، وهو أهل لذلك،أن ينهض بمبادرة للقيام بأمر هذه الاستراتيجية المفقودة، وأن تكون ولايته ناطقاً رسميا باسم الحكومة المرجعية في هذا الخصوص.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.