ما بعد التعليق الثورة والثورة المضادة.. مدنية وكفاءات بالمرصاد

الخرطوم: عمرو شعبان

تزامناً مع هجومين مباغتين لقوى الثورة المضادة على الثوار في القيادة العامة، برزت العديد من الأصوات النشاز والاحتجاجات الموصوفة بالمريبة التي ترفض ما وصفته بالاتفاق بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الذي يفضي إلى انتقال سلس إلى سلطة مدنية تشكلها وتسودها قوى الإعلان.. سر الاحتجاج يرتبط في حرص المحتجين من أحزاب الكرتون وتيارات الإسلام السياسي على المشاركة مجدداً ضمن قوى الثورة في السودان الجديد، وهو الأمر الذي ترفضه قوى الإعلان لجهة أنها تطرح دولة مدنية بسلطة مدنية تديرها الكفاءات.. فلماذا مدنية وكفاءات؟

الموقف الآن
رئيس المجلس العسكري الانتقالي ما أن أعلن تعليقه التفاوض مع قوى إعلان الحرية والتغيير بسبب التصعيد الثوري الذي مارسه الثوار وتمدد متاريسهم حد إغلاق وسط الخرطوم، إلا وتداول الثوار موقف المجلس العسكري وكأنه مماطلة لتسليم السلطة، ما دفعهم لتنفيذ توجيهات القيادة الميدانية فوراً بإزالة المتاريس الإضافية والعودة إلى متاريس محيط الاعتصام المعلنة في 6 إبريل.

حكومة مدنية
يظن البعض أن قوى التغيير تصر على المطالبة بحكومة مدنية لأن العالم ممثلاً في القوى الدولية والإقليمية ما عاد يقبل بالحكم العسكري! بيد أن الناشط القانوني والمحلل السياسي أنور سليمان يرى في حديثه لـ(السوداني) أمس، أن ذلك ليس السبب الجوهري فقط، لجهة أن الإجابة التي تعترض السؤال (لماذا يرفض العالم الحكومات العسكرية؟)..
ويذهب أنور إلى أن المطالبة بحكم مدني سببه أن الحكومة المدنية مجبرة على العمل وفق قانون عام ينطبق عليها ومحكوميها على قدم المساواة، منوهاً إلى أن الحكومة المدنية لا تملك سلطة إجبار الشعب على القبول بها وبقراراتها بالعنف والقوة إنما تعتمد الرضا والقبول والحجج والإقناع. وأضاف: في حال تضرر مواطن من أفعال الحكومة أو قراراتها يجد عدة خيارات للشكوى منها بينها الطريق القضائي و الإداري وطريق الصحافة والإعلام و الطريق السياسي أيضاً.
أنور يرى أن القرارات داخل المنظومة المدنية تتخذ بالتصويت وبالأغلبية العادية أو الإجماع بعد مناقشات وتصويت بين أكثر من خيار واقتراح وبعد تفهم لجميع الأبعاد والمشكلات والآثار والارتدادات، وليس عن طريق التعليمات من أعلى لأسفل كما في النظم العسكرية حيث يعقب المناقشات إنفاذ الخطط والقرارات! منوهاً إلى أن الأنظمة العسكرية لا تتقيد بقانون ولا بمنطق حساب تكاليف الربح والخسارة إنما بقانون الحرب ومنطق النصر والهزيمة فقط ومن الصعب بل والمستحيل محاسبتها و مساءلتها أو إجبارها بوسائل قضائية أو سياسية على فعل أو عدم فعل شيء أو القيام بأي معالجات أو تعويض!
قناعة أنور بالحكومة المدنية بدت كبيرة، ويصفها بأنها ليست جيدة للمواطنين المدنيين فقط بل والعسكريين أيضاً. فالعسكري هو مواطن في المقام الأول وله حقوق دستورية وتنطبق عليه حقوق الإنسان ومن حقه أيضاً أن يتظلم ضد الدولة أمام قضائها العادي وآلياتها المختلفة إن انتهكت حقوقه، قاطعاً بأن الحكومة المدنية هي إحدى ضمانات سيادة مبدأ حكم القانون ومبدأ احترام الالتزامات الدولية خصوصاً عهود حقوق الإنسان الدولية..
وأشار سليمان إلى أن قيام حكومة انتقالية عسكرية لسنة أو لسنتين كما يقترح المجلس الانتقالي العسكري الحالي يعني أن يستمر الوضع الذي حكم لثلاثين عاماً وثار ضده السودانيون جميعاً لمدة إضافية! فسلطة البشير جاءت كحكم عسكري واستمرت كذلك رغم محاولات إلباسها ثوب المدنية ومحاولات محاكاة إقامة تعددية حزبية! وإشراك العديد من المدنيين في الحكومة، إذ بقي الطابع العام هو العسكري الذي تتنزل فيه “التعليمات” والأوامر داخل الحكومة وبرلمانها وحزبها و قضائها أيضاً كما في جيشها من أعلي لأسفل، واستمرار هذا الوضع لأيام ما عاد مقبولاً ناهيك عن أن يستمر لسنوات!!

حكومة كفاءات
المحاصصات تفتح الباب لاستيعاب كم هائل من الراغبين في البروز للمشهد السياسي وتصدره كما حدث في نظام المخلوع البشير، بيد أن طرح قوى إعلان الحرية والتغيير بتشكيل حكومة كفاءات يغلق الباب أمام أي مشاريع محاصصات أو تقسيم على أساس غير التخصص، فلماذا المطالبة بحكومة كفاءات؟ ويرى أنور أن السبب لا يكمن في انعدام الكفاءات لدى الأحزاب، إنما الكفاءات المقصود بها الأشخاص الذين لا انتماء حزبي لهم ‘مستقلون سياسياً’، منوهاً إلى أنها حكومة يتم اللجوء لها دائماً في الأوقات الحرجة والاستثنائية من عمر الأمم والبلدان؛ وأضاف: لتجنب أي خلافات سياسية حزبية يعهد لكفاءات مستقلة غير حزبية شأن الحكم لفترة مؤقتة معلومة تقوم فيه حكومة الكفاءات بتصريف أعمال الدولة دون أدنى شبهة تحيز حزبي أو سياسي، بل بأحسن ما لدى جهاز الدولة من مهارات الإدارة، مشيراً إلى أنه أحياناً يتم اللجوء لحكومة الكفاءات لتصريف الأعمال حتى في ظل البرلمانات المنتخبة ديمقراطياً والكتل البرلمانية الحزبية صاحبة الحق في الحكم شرعاً و ذلك أيضاً بغرض التوافق للعبور بالأوطان والأمم في لحظات الحرج والظرف التاريخي الحساس والدقيق.
وأعتبر سليمان أن الضرورة التي تفرض اللجوء لصيغة حكومة الكفاءات تنطلق من أن للسودان حياة برلمانية سياسية معطلة لثلاثين عاماً، وكل ما جرى من اقتراع وانتخابات كان صورياً ومتحكم به وزائف، والأحزاب ظلت مضيق عليها، مع حالات عنف أهلي وحرب، وجهاز دولة تم شله وإضعافه وإلغاء شخصية مؤسساته واستقلالها. وأضاف: كل هذا يجعل إجراء انتخابات مبكرة في أمد قريب ليس صعباً فقط بل وأمراً يجب تجنبه لأنه قد يقود إلى تفجير الأوضاع بما لا يحمد عقباه، و يجعل خيار حكومة كفاءات مدنية لفترة انتقالية بأمد معقول هو الخيار الأنسب والأمثل حتى تتم إعادة ترميم وبناء مؤسسات الحكم وتبني الأحزاب نفسها ويتم عقد معاهدات سلام و صلح وطني أهلي اجتماعي يفضي لضمان الوحدة الوطنية.

بعد التعليق.. ما المطلوب؟
سيناريوهات عديدة يطرحها الكثيرون ويتصورون إمكانية حدوثها، أولها أن تكون المهلة المعلنة من قبل المجلس العسكري الانتقالي حقيقية والهدف منها امتصاص حالة الاحتقان التي تسببت فيها الجهات التي تريد نسف التوافق والاتفاق بين المجلس العسكري وقوى الإعلان، ويذهبون إلى أن خطوة التأجيل لـ72 ساعة بذلك نجحت في التقليل من حدة الشد العصبي لدى مفاوضي الطرفين، وسعت إلى (فلترة) المناخ السياسي قبيل الجولة الأخيرة.
فيما تذهب تحليلات أخرى إلى أن خطوة المجلس العسكري وتذرعه بالمتاريس لتأجيل الجلسة الأخيرة بهدف التنصل من كل ما تم الاتفاق عليه في الاجتماعات السابقة خصوصاً سلطات وصلاحيات المجالس الثلاثة، ونسبة قوى إعلان الحرية والتغيير في المجلس التشريعي، فضلاً عن تكوين مجلس الوزراء بالكامل من قوى إعلان الحرية والتغيير وبواسطتها. بيد أن الفرضية الأخيرة تصطدم بتركيز المجتمع الدولي والإقليمي على ما يحدث في السودان وبيانات حثه على سرعة التواصل والاتفاق بين الأطراف.
ويذهب المحلل السياسي والصحفي ماهر أبو الجوخ في حديثه لـ(السوداني) أمس إلى أن ثمة مطلوبات من قوى الإعلان عموماً وتجمع المهنيين على وجه الخصوص، أهمها اتخاذ قرار واضح بإعادة الانتشار في موقع الاعتصام بحيث يعاد انتشار المعتصمين والمعتصمات في المناطق السابقة قبل أزمة إغلاق جسر النيل الأزرق يوم الأحد 12 مايو 2019م وان توجه في ذات الوقت بعدم التمدد العشوائي لنطاق الاعتصام إلا بموجب توجيهات صادرة عن قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيبن وأن يشمل هذا الإجراء فتحاً للجسور والطرق الرئيسية والجانبية التي تمددت فيها مساحة الاعتصام خاصة في العاصمة ومناطقها السكنية بعد أحداث يوم الأحد 12 مايو 2019م. وأضاف: في ذات الوقت يجب على اللجنة المشتركة التي تم الإعلان عنها بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري عقب اجتماعات 14 مايو 2019م تحديد مهام مشتركة تتعلق بتأمين محيط الاجتماع وداخله ووضع حد لأنشطة مرصودة ومعروفة من لجان الميدان لعناصر أمنية وشبه عسكرية تابعة للنظام البائد وحزبه الحاكم.
هذا المسار قابل للتطور حسب العملية السياسية ليبلغ ذروته ومنتهاه بإكمال تأسيس هياكل الحكم الانتقالي وعلى رأسها تكوين حكومة مدنية ديمقراطية بالسلطات الواسعة التي ستباشر فيها كل مهام الحكم وتتولى تحقيق مطالب الثوار خاصة المتصلة بتصفية ومحاكمة رموز النظام السابق ومرتكبي الانتهاكات والشروع في تأسيس واقع ديمقراطي حر.

انقلاب خفي.. ماذا حدث؟
المأزق الحالي الذي تعيشه البلاد بدأ بقوات ترتدي زياً رسمياً قامت بإغلاق كوبري النيل الأزرق من اتجاه بحري، مانعة العديد من الثوار والمواطنين الذين فضلوا الإفطار في القيادة العامة حيث مقر الاعتصام من الوصول إليها، ليرد الثوار في اليوم التالي بإغلاق شارع النيل تماماً، الأمر الذي تسبب في اختناق مروري عانت منه العاصمة يوم ذاك.
رد الفعل جاء متزامناً مع توقيت الإفطار، حيث أقبلت قوة عسكرية ترتدي زي الدعم السريع وتمتطي سياراته، لفتح المتاريس قسراً، ليحدث شد وجذب مع الثوار الذين يحرسون المتراس، ليأتي رد الفعل مباغتاً بإطلاق النيران على الثوار.. ليدور السؤال من يقف وراء ارتكاب المجزرة؟ سؤال تعددت إجاباته واتهاماته وسط توصية بتكوين لجنة لتقصي الحقائق، إلا أن سيل الاتهامات لم يقف عند كتائب الظل وقوات الدعم السريع فقط بل تعدى الجانب المحلي ليطال الجانب الدولي بالإشارة إلى ضلوع دول في المجزرة طبقاً لتصريحات نائب رئيس المجلس العسكري.
تحليلات عديدة واتهامات كثيرة لم تشفع لتفسير المشهد وتوضيح أبعاده كلها، بيد أن أبو الجوخ يذهب إلى أن الدولة العميقة قادت انقلاباً من منسوبيها داخل الجيش والدعم السريع بالتزامن مع منسوبيهم المندسين في ميدان الاعتصام، مشيراً إلى أن توقيت التحرك جاء متزامناً مع بداية الاتفاق بين المجلس وقوى الحرية والتغيير، مدللاً على ذلك بالتضارب الواضح في التعليمات المستديمة للقوات وبين التوجيهات الميدانية الطارئة الأمر الذي خلق مشهدين قوات تضرب وذات القوات تحمي، عازياً ذلك إلى تحرك الضباط المنسوبين للنظام البائد والمحسوبين على الإسلاميين في محاولة للانقلاب على قوى الثورة، من خلال خطة تستهدف جر المعتصمين إلى أطراف الاعتصام حيث المتاريس البعيدة لإفراغ قلب الاعتصام ومن الهجوم على بعض المتاريس وحال النجاح في اختراق أحدها يتم احتلال محيط القيادة لمنع الثوار من التمركز والاعتصام مجدداً، ويتم ذلك بالتزامن مع تسلم الوحدات العسكرية في محيط القيادة العامة، بدليل سحب سلاح جنودها يوم ذاك. منوهاً إلى أن خطوة المجلس في إقالة كيان الإسلاميين في الجيش والشرطة فضلاً عن خطوات التقدم السياسي بين المجلس وقوى الحرية والتغيير ساهمت في تحرك مليشيات الإسلاميين خصوصاً الموجودة داخل الدعم السريع بعمليات الاستفزاز والتحرش فضلاً عن الاعتداء الذي مارسته بزي ومركبات الدعم السريع، وهو ما يفسر ازدواجية موقف القوات، قاطعاً بأن ما هزم الانقلاب هو ثبات وبسالة الشهداء في المتاريس.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.