الخرطوم: سعيد عباس

تميز كثيراً عن دفعته ورفقائه وأبناء جيله في الوسط الفني ولم يكن تميزه ذلك

(1)
نتاج لطلاوة صوته وجماله وعبقريته اللحنية فحسب، بل كان لتميزه في كَافّة أشكال القوالب الفنية المطروحة إنشاد، شعر، دراما، تلاوة ودوبيت، لذلك أطلق عليه كثيرٌ من المُعجبين والنُّقاد لقب الفنان الشامل والمُتكامل، حيث عرف أنّه أول فنان سوداني أنتج فيلماً شَقّ طريقه للعالمية على نفقته الخاصّة.
(2)
هو صالح الجيل عبد القادر مُحمّد أبو قرون ولد عام 1937م بمنطقة أم دوم، ونشأ وتَرعرع بين أم دوم ومنطقة أبو قرون، حيث الحس الصوفي والنُّوبة والطَار وجلسات الذكر والإنشاد، بدأ تعليمه كسائر أقرانه بخلوة الشيخ أبو قرون، ثُمّ المدارس الحكومية، لكنّه طَوّرَ من إمكانَاته الأكاديمية حتى دخل معهد الجامعة الشعبية المصرية بالقاهرة، بدأ ابن البادية مسيرته الفنية كمادح للمصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، إلا أنّه عندما جاء إلى العاصمة حَاوَلَ الغناء فَوَجَد فيه النُّقّاد ضَالتهم المَنشودة، فكان من الفنانين القلائل الذين أجمعت عَليهم اللِّجان الفنية المُختصَة، فغنى مُباشرةً بالإذاعة السُّودانية في بواكير خَمسينات القرن الماضي، ولما سَمعته والدته يُغنِّي في (الراديو) صاحت ونادت على والده، وقالت: هل تسمع ذلك المغني بالراديو؟ فقال ومالي بيهو، فقال: إذن أصغي وستعرف من هو؟ فقال لم أعرفه، فقالت الوالدة هذا هو صالح ابني، فقال الوالد (يا ولية صالح مالو ومال الإذاعة) فقالت: (دا صوت ولدي صالح ذاتو الما بغباني).
(3)
شَبّ ابن البادية مُولِعاً بالغِنَاء والتّلحين، لِذلك جَاءت أغنياته تَحمل بُعداً تطريبياً خَاصّاً لأبعد الحُـدُود، كَمَا أنّه كَانَ يَختار وينتقي الأعمال الشعرية ذات الطابع الدِّرامي والإنساني الخَاص، لذا جاءت كلمات ابن الباية تُخاطب الدواخل والوجدان بصورة مُباشرةٍ، أنظر إلى الدراما الحِسيّة والمعنوية وكيفية الأداء التراجيدي عندما يَتَأوّه ابن البادية ويترنّم ويقول (أنا ما بقول يا قلبي أنساهو وخلي للحُب الدرب، لكن كمان ما تكون عنيد وتحب ليك زول ما بحب)، فقد دغدغت تلك الأبيات مشاعر وجراح عدد من العاشقين والمُحبين، فكانت لهم بلسماً يُواسي أنين آلامهم وبكائهم، وهذا تأكيدٌ على أنّ ابن البادية كان يختار المفردة الإنسانية المُشبّعة بالدراما الحسية والمعنوية، تأمّل نبراته مع العملاق محمد يوسف موسى في (أعيش في ظُلمة وإنت صباحي، إنت طبيبي أموت بجراحي – في شعري رفعتك أعلِّي مكانه يا الجازيتني بكسر جناحي)، إلى أن يأتي في سدرة مُنتهى الوجد والحنين في نفس الأغنية ويعتصر ألمَـاً ويقول: (كلمتي المَسّت غُرُورك وفرّقتنا يا حبيبي – مُش خلاص كفرت عنها بي تسهدي وبي نحيبي) في روعةٍ مُتناهيةٍ في الوجد والشّجن واللغة والبيان، ويَكمن البَيان في تلك الأبيات أنّ الشّاعر محمد يوسف موسى استخدم اللفظ العَامّي والمُوغل في العَامية وهي كلمة (مُش) مع اللفظ الفصيح والمُوغل في الفصاحة وهُما كلمتا (تسهدي ونحيبي)، في الوقت الذي لم يجعل فيه العَاميّة تُؤثِّر على جزالة المُفردة الفصيحة ولم يترك الكلمة الفصيحة تَطغَى على بساطة العامية.
(4)
قَدّمَ ابن البادية للشعب السوداني حوالي (117) أغنية تَمّ تسجيلها بالإذاعة السُّودانية، ولكن في الفترة الأخيرة لمّا قلّت تسجيلات الإذاعة وهجر كثيرٌ من المُستمعين جهاز الراديو، فكّر ابن البادية في تسجيل أعماله وتَجويدها بطريقته الخَاصّة، وكان أول فنان سُوداني يُنشئ أستديو فنياً ضَخماً ومُتكاملاً بكل اللوازم الرّقمية الحديثة لتسجيل أعماله وذَلك بمنطقة كافوري، ومِمّا يُؤكِّـد إحساس ابن البادية العَالي تجَاه الكَلمة والمُفردة إنّه قَالَ كُنت في بداية خمسينات القرن الماضي اِحرص على دُخُول سينما كوبر ليس لمُشاهدة الفليم والاستماع لمُوسيقاه ولا لمُلاقاة الأصدقاء هناك، ولَكن كُنت أحرص على الدخول لأنّ الفني المسؤول بالسينما يقوم بتشغيل أسطوانة للفنان الكبير عبد الحميد يوسف قبل بداية الفيلم في أغنية (غضبك جميل زي بسمتك) مع تكرار الأغنية مَرّتين، وفي الفَاصل أو الاستراحة للفيلم يقوم بتشغيل أغنية (أذكريني يا حمامة)، أيضاً لعبد الحميد يوسف، وقتها أكون في قِمّة الفرح والحُبُور واستمتع أكثر من استمتاعي بالفيلم، أغنيات صلاح جميعها تُنافس بعضها البعض، فمن الصُّعوبة بمكان تحديد أغنية مُعيّنة لابن البادية باعتبارها الأفضل، فأنت حَتماً سَتكون في حِيرَةٍ إذا ما خُيِّرت ما بين (أسير الغرام وسال من شعرها الذهب أو أحلى الكلام لغة العيون أو ما عشقتك لي جمالك أو يَا جَنَا أو عايز أكون تاجر عُطُور أو الليلة سار …إلخ)، فكل أغنياته نُجُوم في سماء الأغنية السودانية، إذ يندر أن تجد عند ابن البادية أغنيةً مَغمورةً.. كَمَا غنّى ابن البادية لعددٍ كبيرٍ من الشعراء السُّودانيين على سبيل المثال وليس الحصر منهم (محمد بشير عتيق، مبارك المغربي، محمد يوسف موسى، محجوب سراج، عبد الله النجيب وأبو شورة)، ويُعتبر ابن البادية من أوئل الفنانين السودانيين الذين غَنّوا لشعراء خارج حُدود الوطن وذلك عندما أدّى أغنية (ليلة السبت) للشاعر الفلسطيني محمود حسيب القاضي.
(5)
اتّفق عددٌ كبيرٌ من النُّقّاد أنّ ابن البادية بَدَأ كبيراً في كل أعماله، وأكّدوا ذلك عندما قالوا إنّه دخل الإذاعة في سِنٍّ مُبكِّرة جِدّاً، وعندما بدأ العمل الإذاعي اِشترك مُباشرةً مع القَامة الدِّرامية الإذاعيّة الأستاذ عثمان حمّيدة (تُور الجر)، وعَندمَا تَوَجّه إلى الأفلام أنتج أول فيلمٍ سُوداني حُظي بمُشاهدةٍ عاليةٍ (تَاجوج) من إخراج الأستاذ جاد الله جبارة وبطولة ماجدة حمدنا الله وفايزة عمسيب وعوض صديق، وعندما مثل خارج حُدُود القطر، تعاون مع الإِخوة المصريين عَمالقة الدراما العربية ومثل فيلم رحلة عُيُون مع أكبر نجوم الشاشة المصرية وقتذاك الحين وهم محمود المليجي وسمية الألفي وإخراج أنور هاشم، وله أيضاً فيلم عربية مُسودنة مع نعمات حماد، وفيلم آخر بعنوان (ريرة).. الناظر إلى تَجربته يلحظ تماماً أنّ موهبته الدرامية الفطرية العالية جعلته لا يتدرّج، بَل يَقفز إلى أعلى سُلّم النُّجومية مُباشرةً، فانظر في الإذاعة فإنّه تَعَامَلَ مُباشرةً مع عثمان حمّيدة (تُور الجر) في اِسكيتشات (تور الجر بألمانيا)، وعندما توجّه للعمل السينمائي السوداني عَملَ مع نجوم قمة وهم عوض صديق وفايزة عمسيب وماجدة حمدنا الله التي أدّت دور تاجوج، وإذا نظرت إلى تجربته مع السينما المصرية، نجده أيضاً قد صعد السلّم من أعلاه، فكان أول تعامُل له مع الفنان الكبير محمود المليجي وسمية الألفي وهما من الفنانين الذين يَصعب مُشاركتهما درامياً ما لم يكونا على قدرٍ عالٍ من الموهبة أو النجومية.
(6)
اختلف المجلس العسكري والحُرية والتّغيير في أشياءٍ كثيرةٍ حتى يصلا لتك المرحلة، ولكنهما لم يختلفا على الفنان صلاح ابن البادية حينما قَدّما له الدعوة ليُغنِّي في يوم تَوقيع الوثيقة الدستورية ليصدح برائعة مبارك المغربي (ما عشقتك لي جمالك وإنت آية من الجمال أو هويتك لي خصالك وإنت أسمى الناس خصال).
نَعِى النّاعي أمس الأول وفاة فنّاننا القَامة صلاح بن البادية بتاريخ الاثنين 16 ديسمبر 2019م بالعاصمة الأردنية عَمّان إثر علة لم تمهله طويلاً بعد أن نقش اسمه بأحرفٍ من نُور في سجل عمالقة الفن السوداني.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.