‎الكاميرا الخفية

‎ كثيرٌ من مواضيع الأعمدة الصحفية نلتقطها من أفواه الأصدقاء، وفي مرَّات من غمار الناس. تعليق أو ملاحظة، وربما من حوارٍ عفويٍّ تُخرج فكرة العمود.
‎في إحدى زياراتي لتركيا، كان يحدثني صديقٌ عزيزٌ عن التجربة التركية في مُحاربة الفساد. التجربة مُدهشة ومُثيرة!
‎قبل خمسة عشر عاماً، حينما كانت جرثومة الفساد تكاد تفتك بتركيا؛ كانت نقطة الانطلاق من برنامجٍ للكاميرا الخفية.
‎لا شيء يُنجز في أجهزة الدولة دون دفع ما يُقابل الخدمة من رشاوى.
‎إحدى القنوات التليفزيونية أنتجت برنامج كاميرا خفية، يتجاوز الضَّحك والتسلية للإصلاح والعلاج المُجتمعي.
‎فكرة البرنامج تقوم على محاولة إنجاز خدمات عادية داخل أجهزة الدولة.
‎مثل أن يذهب أحد المُمثِّلين لإكمال إجراءات في مكاتب الضرائب مصحوباً بكاميرا خفية.

‎الكاميرا تُسجِّل تفاصيل الحوار بين المُمثِّل والموظف. والحوار في العادة، وفي أغلب المكاتب الحكومية، لا يخلو من مشروع اتّفاق على رشوة تُقدَّم تحت الطاولة.
‎كُلَّ خميس، وفي توقيتٍ مُحدَّد، يجلس الأتراك أمام شاشة التلفاز للاطِّلاع على حصاد الكاميرا الخفية.
‎كُلُّ موظفٍ في الدولة يضع يده في قلبه خوفاًَ من أن ينتهي مصيره المهني والاجتماعي في لحظات تكون فيها الكاميرا قد رصدت تفاصيل عملية مشبوهة، قام بها مع أحد المواطنين أو بالأحرى المُمثِّلين.
‎البرنامج نال شهرةً وصيتاً واسعَ النطاق، حيث أصبح الأكثر مشاهدةً ومتابعةً في كُلِّ القنوات التركية، وأسهم بفاعلية في الحد إلى درجة كبيرة من انتشار ظاهرة الرشوة في المصالح والدواوين التركية.
‎صديقٌ آخر، مُقيمٌ بإثيوبيا، كان يحكي لي عن أساليب وطرائق الحكومة الإثيوبية في محاربة الفساد عبر مفوضية مُتخصِّصة ذات صلاحيات وسلطات واسعة.
‎المفوضية استُحدثت أساليب إعلامية عبر الدراما ورسومات كاراكتيرية وجملٍ ذات طاقة تعبيرية عالية.
‎الجمل الدِّعائية تُركِّز على تنمية الثقافة المجتمعية المُضادَّة للفساد، عبر تعزيز ثقافة تجريم الاعتداء على المال العام في المجتمع واستقذار الفعل.. ومن بعد ذلك تأتي الآليات العقابية.
‎التجربة الإثيوبية تستحق الوقوف عندها والاستفادة منها، فهي تؤكد أن الفساد لا يُحارَب فقط بالقوانين؛ فالقوانين هي المحطة الأخيرة، طالما أن هنالك بيئة مجتمعية حاضنة للفساد فالقوانين لن تجدي نفعاً.
‎مفوضية «محاربة الفساد» المزمع قيامها، لا بدَّ أن تُولي اهتماماً كبيراً لموضوع إقرارات الذمة كوسيلة ناجعة في مُحاربة الفساد، ولن تصبح إقرارات الذمة ذات قيمة ومصداقية إذا لم تصبح إقرارات علنية يطَّلع عليها الجمهور.

‎لإعطاء مصداقية لإقرارات الذمة لا بدَّ أن تكون الإقرارات علنيةً، ويمكن الطعن في صحتها من قبل الجمهور.
‎في الولايات المتحدة الأمريكية، يتمُّ عرض إقرارات الذمة لكبار المسؤولين على لجنة مُختصَّة، ثم توضع إقرارات الإفصاح المالي على موقع في الشبكة العنكبوتية ليطَّلع عليها الجمهور.
‎التجربة الماليزية هي الأفضل في العالم الثالث. لجنة إقرارات الذمة بماليزيا عبر استماراتها المُحكَمة وتحقيقاتها القاسية، لم يجد أحد الوزراء سبيلاً للهروب من ملاحقة اللجنة سوى عبر الانتحار والسقوط رأسياً من إحدى بناياته الشاهقة.
‎المفسدون أخطر من الأعداء المقاتلين. الأعداء يقابلونك في الهواء الطلق، والمفسدون يقاتلونك خلف أسوار الذات، في بيئة هوائية صالحة لنشاط البكتيريا.

‎إذا لم تكن الحكومة السودانية جادة في محاربة الفساد سيًتحوَّل الحديث عن الفساد إلى لوثة مجتمعية، تُطلَق فيها الاتهامات بلا حيثيات ولا فواتير توضح اسم وصفة البائع والمستفيد!
‎الفاسدون هم الأحرص على إفساد مشروع مكافحة الفساد، وإظهاره بثوب الفوضى والعبث الهازل!
‎الفاسدون أحرص الناس على توسيع دائرة الاشتباه وإحداث حالة ازدحام، تُوفِّر لهم ملاذ الاختباء أو ستار الهروب تحت حماية الغبار!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.