جوبا..الحلم الحائر!

بقلم رفيدة ياسين

لطالما اعتدت زيارتها وهي جزء من وطني الأم، وها أنا ذا بعد نحو عشر سنوات من الغياب أصل إلى جوبا، لأجدها عاصمة دولة جارة.
شعور مختلف أَن أدخلها بعد كل هذه الفترة وفق إجراءات الهجرة المعمول بها بين الدول وهي في جوبا أكثر تعقيدًا من تلك الإجراءات المُتّبعة بين السودان وجارته الشمالية.
ربما يحتاج المرء إلى كثير من الواقعية لكي يمعن في وقع المتغيرات على ذاكرته وذكرياته،
غير أنه يحتاج في الوقت نفسه إلى بعض الاستعداد الوجداني لتصفح واكتشاف المشهد الجديد مستصحبا شيئا من ملامح الصور القديمة.

تفاصيل حوار داخلي طويل ظل يدور في ذهني طوال الرحلة عن ما كانت عليه الأمور وما آلت إليه،
لم تحسمه إلا تنبيهات طاقم الطائرة بربط الأحزمة استعدادا للهبوط.
تتراءى جوبا من النافذة باسمة وغاضبة في آن واحد،
مشهد قد يزيد الفضول للتوغل في تفاصيلها،ولقراءة ما طرأ على غبرائها من تغيير وما مر على جبين أهلها من مواقف وما رسا فيها من سلام أو تحقق من أحلام.
التناقض الظاهر قد يؤثر على تفاعلك وانفعالك بالمكان وقد يكون أكثر فعالية لسبر أغوار المدينة في ثوبها الجديد.
فور نزولنا من الطائرة وقبل أي اجراء لابد من المرور عبر كشف الإيبولا وهي حملة تشرف عليها منظمة الصحة العالمية.
بعد إنهاء الإجراءات المفروضة وغير المفروضة خرجنا من المطار، لنجد حاضرة الجنوب الجميلة متأرجحة في كل شيء.
المدينة التي كنت اعرفها جيدا وكثيرا ما أتردد عليها هذه المرة وجدتها تتوشح بالغرابة.
الطقس كان حارا يميل إلى البرودة،
بعض أشجار الأبنوس وجدتها تميل شاكية ما حل بها من إهمال وأهوال.
جوبا بدت تارة تتدثر بصمتها وتارات أخرى تضج بالصخب،
بعض شوارعها هادئة حد التخثر والبعض الآخر صاخب حد الإزعاج وهي مكتظة بالمارة والسيارات والهموم.
في سوق كونجو كونجو الشهير لا صوت يعلو فوق صوت الباعة الجائلين وهدير السيارات والبودا بودا (الدراجات النارية).
حياد ممهور بشيء من القلق يطل من عيون أناس اعتادوا على مجابهة أرزاقهم هنا وهناك.
النخب لا تنتهي نقاشاتها عن حلم الدولة الذي تحقق وشكل الدولة الذي كانوا يتطلعون إليه،بعض المستنيرين والحقيقيين من “الرفاق” يقاومون ويعملون دون ضجيج لكنهم يصطدمون ويحبطون بعراقيل كثيرة.
ما زال للقبيلة حظوتها وسطوتها وهو واقع يتصالح معه كثيرون وإن كان مثبطا لهمم آخرين.
أكثر ما يلفت نظر الغائبين عن جوبا لسنوات هو التوسع والنهضة العمرانية الواضحة بصورة أكبر في أبنية الوزارات الجديدة ومساكن المسؤولين والفنادق التي زادت أعدادها بصورة ملحوظة لمستثمرين أجانب من جنسيات مختلفة، يديرون رؤس أموال ضخمة وهو أمر تتخلله في همس الأقاويل والاتهامات.
القصر الجمهوري يقع في شارع مُعَبّد وسط المدينة لكن آثار الرصاص ما زالت باقية على جدرانه لتشهد على معركة ضارية قبل بضع سنوات اتهم فيها رياك مشار نائب الرئيس آنذاك بمحاولة التمرد والاستيلاء علي السلطة.
يقول الناس في جوبا ومن حضروا الواقعة وما بعدها إن سلفاكير رفض إصلاحها وأمر أن يتركوا كل شيء على هيئته بعد تلكم الأحداث.
على المستوى العام (سياسيا) جُلَّ من كنت أعرفهم من القيادات السياسية والعسكرية باتوا بين عشية وضحاها متمردين ومعارضين لسلطة سلفاكير.
اليوم معظم رفقاء الأمس تقاسمتهم الغربة وتشتتوا في المنافي، بعضهم في دول أفريقية مجاورة وآخرون في ما وراء المحيطات.
القادة الكبار حياتهم موزعة بين نيروبي وكمبالا وأديس أبابا،
وانخرط بعضهم في مشاريع تجارية مختلفة.
فقط قيادات الصفوف الوسطى والدنيا هم من يعانون الأمرين وكانوا ضحية الصراع على السلطة.
من آثر البقاء من العارفين ببواطن واسرار الحركة قديماً ابتعدوا عن المشهد تماما ويعيشون خلف كواليس الأحداث في هدوء.
عموما الزائر لجوبا سيسعد بتفاصيل لا يمكن أن تتوفر له إلا في هذه المدينة لكن عليه أيضا أن يترك ساعته في حقيبته فكل شيء فيها يتم على مهل ومن الصعب جدا إنجاز شيء في وقت وجيز،
فكثير ممن يعيشون في المدينة على فطرتهم كالطفل في سنته الأولى ليس لديهم أي إحساس بالزمن أو الوقت.
في المساء تقل الحركة نسبيا وتكثر في المقابل النقاط الأمنية فعلى بعد كل مئتي متر تقريبا قد تستوقفك فرق الجيش الشعبي لأسباب أمنية وهو أمر عرفت أنه غدا إجرائيا وعاديا من بعد أحداث “تمرد مشار” كما يصفونها.
جوبا التي أعرف تغيرت كلُُ يراها على طريقته بيد أنها ما زالت تسهر على وقع إيقاعات مُبهجة وتكتم كذلك كثيرا من الآهات…!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.