أحمد إبراهيم أبو شوك

تدشين كتاب “السودان المُعَاد روايته” ببيت التراث في الخرطوم – الخميس الموافق 28 نوفمبر 2019م

شارك الخبر

السودان المُعَاد روايته كتاب فني عن السودان ماضٍ وحاضرٍ ومُستقبلٍ، أعدّته نخبةٌ من الفنانين والمُبدعين، الذين وظّفوا في إخراجه أفكارهم، وإبداعاتهم، ورؤاهم لرسم صور ذهنية حيّة، تتعدّد مَشاهدها وتتباين تفاسيرها. أشرف على إعداد هذا العمل الفني الرائع الأستاذ المبدع خالد ود البيه، الذي شرّفني بتقديم نص الكتاب، الذي أحسبه جدير بالقراءة والتأمُّل.

علاقة الفن بالتاريخ، علاقةٌ وطيدةٌ؛ لأنَّ أحداث التاريخ تُشكِّل في مُعظم الأحيان الخلفيَّات التي ينطلق منها الفنانون والأدباء؛ ليُوظِّفوا خيالهم الفني والأدبي في ربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل. لذلك، يجب ألا نُحاكم الأعمال الفنيَّة من منظورٍ تاريخي، بل من منظورٍ فني، يُقارب سماوات الخيال الفني وتَوظيف الأحداث التاريخيَّة على نحوٍ من شأنه تفعيل رسالة الفن أو الأدب المُقدّمة إلى جمهور القارئين والمُشاهدين. ولعلّه من هذا المنظور، يصف الفنان والرّسّام الكاريكاتيري خالد البيه كتاب “السُّودان المُعَاد روايته” بأنّه تَصورٌ “ذهنيٌّ” للسُّودان، بعدسات كُتَّاب كوميك، ومُصمِّمي جرافيك، وطهاة، ومُنتجي أفلام، ورسّامين، استطاعوا أن يستأنسوا بمُختاراتٍ من تَاريخ السُّودان، ويُعيدوا إنتاجها في شكل قصصٍ مُصوّرة، وحكاياتٍ مقروءةٍ، ورسومٍ تجريديَّة، وصور محسوسة مُعَبِّرة. ومن هذه الزاوية، يُشبه هذا العمل في بعض جوانبه رواية “عُرس الزين”، التي استثمر فيها الطيب صالح أحداث القرية وتراثها الفلكلوري بغية إثراء النص الروائي، والكتاب في بعضه الآخر يُشبه رواية “شوق الدرويش”، حيث استمدّ حمور زيادة مُعظم مَشاهد سرده القصصي من تاريخ التركيَّة والمهديَّة في السُّودان.
ولذلك تكمن أهميَّة “السُّودان المُعَاد روايتُه” في كونه مُنجزٌ فنيٌ رائعٌ؛ لمجموعة من الفنانين والرّسّامين والمُؤرِّخين الهُواة، الذين استطاعوا أن يبرزوا علاقة التاريخ بالفن والأدب من خلال اللوحات الفنيَّة والنصوص التوضيحية المُصاحبة لها، دُون أن يلتزموا بالسرد التاريخي الصرف؛ نسبةً لانطلاقهم من رؤيةٍ فنيَّةٍ شاملةِ، تَسعى لربط المَاضي بالحَاضر واستشراف المُستقبل. ولذلك يجب ألا تُقيّم أعمالهم الفنيَّة من منظور تاريخي؛ لأنّ أغراضها لا تنحصر في المَعرفة التفصيلية لإحداث التاريخ، بل تتعدّاها لإدراك المَعرفة الشاملة لخلفيات تلك الأحداث وعَرضها فنياً. كما أنّ نشر هذا الكتاب بثلاث لغات حيّة (العربيَّة، والإنجليزيَّة، والألمانيَّة)، يعتبر خطوةً مُوفّقةً؛ لأنّه يعطى مساحةً واسعةً للقارئين المُهتمين بالشأن السُّوداني، ليطّلعوا على تاريخ السُّودان من زوايا فنيَّة مُتعدِّدة، يُلازمها تَعَدُّدٌ في القراءات، والشُّروحات، والنّظر، والتّأمُّل خلف سياج النُّصوص التّاريخيَّة المُوثّقة في كَتب التاريخ السُّوداني.
وتبدأ قصة “السُّودان المُعَاد روايته” بالعصر الحجري، الذي رَسَمَ الفنان مقداد الدخيري بَعض مَلامحه في أربع لوحات فنيَّة، عَكست أهميَّة نهر النيل في حياة أهل ذلك العصر، الذين احترفوا حياة الصيد، والزراعة، والرعي في ربوع السُّودان القديم؛ ورمزت سارة الأمين بدوي إلى العهد المروي بلوحةٍ لإحدى الكندّاكات (أي ملكات العهد المروي)، اللاتي اشتهرن بمَهارتهن في فنون الحرب، ولذلك جَعلت عُنوان اللوحة “البطلة الخارقة كانديك”، مُبرزةً ملامحها النوبيَّة، ولونها الأسود، وشفاها الغَليظة، وضفائر شعرها المَسدولة على كتفيها، ومُزينةً ناصيتها وأُذنيها وعُنقها وأطرافها بحلي ذهبيَّة – نوبيَّة. ثُمّ تأتي بعد هذه الحقبة المَرويَّة، الحقبة المَسيحيَّة التي جسَّدتها دار النعيم مبارك في ست لوحات فنيَّة – إحيائيَّة لمدينة فرس، التي شكَّل عُمرانها الكنسي وصُوَرِ نسائها المُتخيِّلة جُزءاً من تراث المسيحيَّة المُندثر في السُّودان. ثُمّ برزت بواكير الحقبة الإسلاميَّة في رُسُوم سِت شَخصيات من العَهد السِّناري الأوّل، كَانَ لها الفضل في توحيد غالبيَّة الإثنيات والأعراق المَوجودة في السُّودان النيلي تحت حُكم سَلاطين الفُونج وأَعوانهم. وبلْور حازم الحسين طرفاً من العهد التركي المصري (1821 -1881م) في صورة تشكيليَّة لأحد الفراعنة، الذين جسَّدوا طبائع الاستبداد، ومن طرف آخر رسمت ملاذ عبد الله عُثمان ومَودّة كَامِل صُوراً مُروِّعة لحادث قتل الجنرال غردون أمام سرايا الحكمداريَّة بالخرطوم. اختزل الكتاب فترة المهديَّة (1881 – 1898م) في حادثة قتل غردون عام 1885م، ثُمّ كمَّل صورة الفرعون في بُعدها الثاني، المُتمثل في فترة الحكم الثنائي (1898 – 1956م) في السُّودان، التي واجهت مُقاومة وطنيَّة شَرسة. ثم خطَّ يراع وائل السنوسي شذرات عن مجاهدات الفقيه عبد الله السحيني، كما رسم صادق قاسم مخيير وياسر فايز لوحتين عن ثورة اللواء الأبيض، والمُحاكمات التي تَعرّض لها زعماؤها. وعزّزا اللوحتين بنص مفاده: “أي أمة تقع في قبضة الاستعمار تجد نفسها تُناضل في سَبيل أن تتحرّر، وتُقاتل للحُصُول على الاستقلال. تتكوّن مُعظم الحُرُوب من معَارك كثيرة، وفي عام 1924م حدثت مَعركةٌ حَاسمةٌ”، قادها أعضاء جمعية اللواء الأبيض. ثم طرح المُؤلِّفان سؤالاً افتراضياً، يقضي بأنَّ ثورة اللواء الأبيض لو انتصرت وحقّقت الاستقلال فلربما تدارك السُّودانيون انفصال جنوب السُّودان عام 2011م؛ لأن قائدها علي عبد اللطيف كان ينحدر من أُصُولٍ جنوبيَّة، حسب رواية صادق قاسم مخيير وياسر فايز. وينتهي هذا الخط التاريخي الزمني بلوحةٍ سوداء كُتب عليها اسم جون قرنق، للنحات محمد درديري، الذي شهد استقلال السُّودان، وتداول السلطة بين حكوماته الديمقراطيَّة والعسكريَّة إلى أن فُوجئت البلاد بانقلاب حكومة الإنقاذ العسكريَّة في 30 يونيو 1989م. وفي هذه الفترة لَمَعَ في مَخيلة محمد درديري اسم الدكتور جون قرنق ديمبيور، الذي “أنشأ الجيش الشعبي لتحرير السُّودان تحت راية المُساواة والعدالة”؛ إلا أنّ دعاية تلفزيون الخرطوم السياسيَّة كانت “تُمجِّد الحرب وتُشيد بالشهداء، وتجرِّم الجنوب، وتُشوِّه صورة غرانغ”؛ بَيْدَ أنَّ درديري أدرك لاحقاً خَطل الدعاية السِّياسيَّة، واكتشف شخصيَّة جون قرنق الحقيقيَّة عبر الوسائط الإلكترونيَّة التي مكَّنته من وصف جون قرنق بأنه كان زعيماً حماسياً، وصاحب “رسالة وطنيَّة وحدويَّة لا يُمكن إنكارها، قدمها بطريقة شاعريَّة من خلال فصاحته وقُدراته التعبيريَّة العظيمة”. وتقديراً لذلك، أنتج درديري اللوحة السوداء المُشار إليها، والنص المُصاحب لها تكريماً “للبطل” جون قرنق، الذي وصفه الرئيس جورج بوش بأنه كان شريكاً أصيلاً في اتفاقيَّة السلام لعام 2005م. ويقودنا هذا الخط التاريخي الزمني المُمتد من العَصر الحَجري إلى عصر العولمة الذي شكّل البُعد الاستعماري الثالث في لوحة الفرعون الجديد، إلى خلاصة مُؤدّاها أنَّ تاريخ السُّودان قد مَرّ بحقبٍ تاريخيَّة مُتعدِّدة، كانت لها انعكاساتها المُوجبة والسالبة في تشكيل مَزاج الشّخصيَّة السُّودانيَّة، وتعدُّد انتماءاتها العِرقيَّة والثقافيَّة والدينيَّة، إلا أنّ الحكومات المُتعاقبة بعد الاستقلال قَد فَشلت في إدارة هذا التّنوُّع الفُسيفسائي، وعَجزت عن تَوظيفه لخدمة وُحدة قُطريَّة جاذبة، فكانت النتيجة انفصال جنوب السُّودان عن شماله عام 2011م.
أما البُعد الثاني الذي حُظي باهتمام المُشاركين في صناعة هذا الكتاب، فيتبلور في اللوحات الفنيَّة التي عالجت قضية الهويَّة السُّودانيَّة من زوايا مُختلفة، تَماهت في كلياتها مع قول الدكتور منصور خالد: إنّ السُّودانيين ليسوا “قوميَّة واحدة بالمفهوم الأنثروبولوجي أو السلالي، وإنّما هم شعبٌ واحدٌ بالمفهوم السياسي، تمازجت عناصره في فَضاءٍ جُغرافي مُحَدّدٍ، وأفقٍ تَاريخي مُعيّنٍ، ولكلِّ واحدٍ منها مَزاجٌ”. والشاهد على ذلك اللوحة المُعبِّرة عن مدينة الخرطوم الحديثة التي رسمتها الفنانة آلاء ساتر، وَحَشَدت جوانبها بصُورٍ ونُصُوصٍ ترمز إلى تعدُّد الانتماءات القبليَّة والثقافيَّة، واللهجات والألسن، لدرجة جعلت كلمة “مرحباً” تُنطق بأكثر من لسانٍ عجميٍ أو عربيٍ مُبينٍ. ويُعضِّد هذا المشهد الخرطومي الصور الحَيّة التي التقطتها عدسة الفنان أحمد أبو شكيمة، لأكثر من ألف وجهٍ من بقاع السُّودان المُختلفة.
يَرَى مُنتجو هذا العمل الفني أنَّ السكك الحديديَّة التي أنشأها المُستعمر البريطاني قد أسهمت في تجسير عملية التّواصُل بين ثقافات أهل السُّودان المُتنوِّعة؛ ولتوضيح هذا الافتراض صَمّموا خَريطة لمَسارات خَط السكك الحديديَّة في السُّودان، وأبانوا كَيف رَبطت الشمال بالجنوب، والشرق بالغرب. وفي النص المُصاحب لهذه الخريطة يقول المُؤلف: محت السكة حديد “الحدود بين أراضينا الشّاسعة، وبَنَت الجُسُور بَين شَعبنا على خُطى قضبان القطار”.
وفي خلفيَّة الخريطة كتب المؤلف أبياتاً من قصيدة “قطار الشوق متين ترحل تودينا *** نشوف بلداً حُنان أهلها *** ترسى هناك ترسِّينا *** نسايم عطبرة الحلوة تهدِّينا وترسِّينا *** نقابل فيها ناس طيبين فُراقهم كان مُبكِّينا”.
وعند هذا المُنعطف يتألّق البُعد الرومانسي للسكة حديد في تيسير التّواصُل الوجداني بين المُحبِّين، كما في الخطابات المُتبادلة بين عادل (الزوج) ووداد (الزوجة). ويقول عادل في أحد خطاباته: “في القطار … جلست إلى جانب رجل من عطبرة، كان يقرأ كتاباً لنجيب محفوظ. تبادلنا الصُّحف والقِصص عن الوطن، وقال لي إنّه اشترى الكتاب من مَكتبة السكة حديد، وسأعود بنسخةٍ لك أكيد. كَثير من الأشياء تُذكِّرني بك، وكأنِّي دائماً في حضرتك، وكأنِّي بدأت في قياس المسافة بيننا بالذكريات”. وإلى جانب دور السكك الحديديَّة في التّواصُل الثقافي والوجداني، كان للمواصلات السلكيَّة (الهاتف) دورٌ آخر في نقل المَعلومات التّاريخيَّة والأحداث اليَوميَّة الجَارية. ويتجلّى هذا المشهد في الحوار الثنائي (اتصال هاتفي مع حبوبة)، والذي يعكس قيمة التواصُل بين الأجيال من طرفٍ، ويُوثِّق من طرفٍ آخر للأحداث المرويَّة شفاهيَّة عن “ضربة” الجزيرة أبا عام 1970م، في عهد الرئيس جعفر نميري (1969 – 1985م).
ويتجسّد البُعد الثالث في صور ورُسُومات المرأة السُّودانيَّة المبثوثة بين صفحات كتاب “السُّودان المُعَاد روايته”، والتي رسمها ياسر أبوعاقلة وإيناس إسماعيل في لوحاتٍ فريدةٍ عن نساء مُسنّاتٍ من جنوب السُّودان وغربه، بمكياجٍ فني، مُستوحى من بيئاتهن المحليَّة، كما وثّقت لوحة الكندّاكة في العصر المروي ولوحات أخرى لدور المرأة السُّودانيَّة في الحياة العامّة. أمّا لوحات الفنانة ريان ناصر فتعكس جماليات المرأة السُّودانيَّة خلال مئة عامٍ (1910 – 2010م)، ملقيةً الضوء على جمالها الطبيعي، وأناقتها الجَامعة بين الماضي والحَاضر، وتأثُّرها بجماليات البيئات الثقافيَّة والسِّياسيَّة المُحيطة بتفاصيل حياتها اليوميَّة.
ويَرتبط البُعد الرابع للكتاب بسماحة الإنسان السُّوداني والإسلام الصوفي، اللذين تجسّدا في لوحة الحكيم الشيخ إدريس ود الأرباب، ولوحة المُبدع الشيخ إسماعيل صاحب الربابة، ولوحة الثائر برتي المُسلّمي الشهير بأبي دليق، ولوحة الجوكر الشيخ سلمان الزغرات، الذي كان فاسقاً ومُعاقراً للخمر (المريسة) في أيّام صباه، لكنه تاب واهتدى وسلك طريق القوم. ويقول ود ضيف الله عن الشيخ إسماعيل: “أول ما تقوم عليه الحالة يمشي في حوشه، ويحضر البنات والعرايس والعرسان للرقيص، ويضرب الربابة، كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون، وتذهل منها العقول، وتطرب لها الحيوانات والجمادات، حتى أنَّ الربابة يضعونها في الشمس أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أحد يضربها”. هكذا كانت السماحة والتّواضُع وحُب الخير للآخرين جُزءاً من السمات المُميّزة للشخصيَّة السُّودانيَّة.
وفي الختام، أتقدّم بصادق التهنئة إلى مُحرِّري ومُؤلِّفي “السُّودان المُعَاد راويته”؛ لأنّ هذا الإنجاز التاريخي – الفني الذي اضطلعوا به يُشكِّل إضَافَةً نَوعيَّة لأعمال مدرسة الخرطوم، التي وضع لَبناتها الأساتذة إبراهيم الصلحي وأحمد شبرين وكمالة إسحق؛ ويقتضي التنويه إلى أنّ الكتاب احتوى على لوحاتٍ فنيةٍ مُهمّة، تُخاطب ضمير الثورة السودانية التي اِندلعت في دَيسمبر 2018م، مُناديةً بالحُرية والعَدالة والمُساواة، والتّغيير في أنماط الحياة المَوروثة التي لا تُلبِّي تَطلُّعات الشباب الثائرين.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.