محمد على عبدالجابر

جذوة من الشجن القديم

الأفكار النيرة العظيمة ذات المردود الإنساني والحضاري تظل في الذاكرة والوجدان حية ونابضة وتظل بذرة الصدق والفكرة فيها عصية على التجاهل والنسيان تزيدها الأيام ألقاً، تستمد زاد البقاء والخلود من خيبات وانكسارات الحاضر العاجز، الحاضر الثري مادياً وعلمياً والفقير أخلاقياً وإنسانياً، والحاضر الذي يدور حول الذات ولا يخطو لحمى الآخرين بقلب مفتوح ويد ممدودة بالعطاء، مما يحتم إجراء مراجعات جراحية والمناداة بثقة مؤكدة بضرورة مراجعة المنظومة التربوية برمتها لتقوم فلسفة التربية في بلادنا وتستند إلى قوائم الأخلاق وتسلك دروب القيم التي تؤكد أن الإنسانية جمعاء تنطلق من أصل واحد ثم تنساب في مشارب إطار ترتيب أحوال هذا الكون الفسيح ثم تتكامل أوجه العطاء من هنا وهناك بقصد نبيل هو إسعاد هذه البشرية، الأخلاق وبدونها ذهاب الأمم لا محال .
والمشهد الصاخب الضاج بعظمة الفكرة وصدق النوايا يأخذني الى أيام خلت من ستينات القرن الماضي وكان قدر أهالي الحلفاويين ان فرضت عليهم الهجرة من وطن الأجداد وادي حلفا الى وطنهم الجديد حلفا الجديدة بالبطانة، ورغم المباغتة وتسارع الأحداث والتحديق في المجهول وتراجيديا الموقف والمشهد اشتعلت في الناس العبقرية النوبية المختبئة في جوف حضارتهم العريقة القديمة، فكان ترتيب الأولويات مدهشاً في تلك اللحظات العصيبة، فكان الوعي المبكر والحس الانساني العميق الذي استجمع واستدرك الموقف بكل نتوءات الحزن والشجن الذي شب من كل مراتع الصبا وينابيع الذكرى، وتفتقت العبقرية النوبية لإلهاماً مسنوداً بوعي استراتيجي سابق لأوانه، فاتجه التفكير نحو تأمين الغذاء اولاً في الوطن الجديد كأولوية تأتي في صدارة الهموم فولدت على الفور فكرة بناء مطحن كشركة أهلية مساهمة من كل النوبيين المهجرين، هكذا ولدت الفكرة من رحم المعاناة ولحظات الشدة، تنادى الناس من كل نجوع وادي حلفا وأصحبوا على قلب رجل واحد ولأن (النية زاملة سيدا) شمخ مطحن حلفا الجديدة صرحاً يتحدى عاديات الزمان ويزين بديباجته (دقيق مطحن حلفا) رفوف البقالات في سوق حلفا التي كانت تكتفي وتصدر ما تبقى لكسلا والقضارف والقربة، وتطور المشروع لمطحن آخر وورشة فيه كثير من الآليات الزراعية من جرارات وحاصدات وامتد ريعه لبناء السينما الوطنية وتشييد مدرسة اتحاد الجمعيات المتوسطة، والعبد الفقير من خريجيها، كان مشروعاً رائعاً ورائداً أكد جدوى الحركة التعاونية في مستقبل المشاريع الزراعية .
ظل هذا المشروع هكذا بعظمته ومردوده الاقتصادي العظيم حتى العام 1989م حيث قام نفر من ابناء حلفا للأسف وبدعم من السلطة آنذاك بحل مجلس الإدارة المنتخب بحجة ان الدقيق سلعة استراتيجية لا يمكن تركه في يد مجلس إدارة غير موالٍ للسلطة، وكان البديل تكوين لجنة تسيير من الموالين الذين ماتت على أياديهم المطاحن وأصبحت خراباً ينعق عليه البوم .
بعض (المستهترين) المدعومين من السلطة أضاعوا كثيراً من المشاريع العظيمة وما قصة مطاحن حلفا الجديــــدة الا مجرد إشارة تأتي في حديث العابرين وقس على ذلك، فلا بد من المحاســـبة والوقوف بقوةً أمام فعلهم الذي أهدر الآمال والأحلام .

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.