د. طارق عثمان الطاهر

موجبات الأمن القومي تقتضي إعادة الثقة والاحترام للقوات النظامية

ظلت القوات النظامية تقوم بواجباتها بصبر وجلد ومسؤولية وطنية في كل المنعطفات والأزمات والمهددات التي واجهتها البلاد منذ الاستقلال، في ظل تشاكسات وخلافات سياسية بسبب غياب الرؤيا والإرادة نحو مشروع وطني يضع اللبنة الأولى لنهضة البلاد يراعي فيها حق المواطنة المتساوية… وبدلا من ذلك انهمكت النخب السياسية في معاركها الشخصية مستغلة للقوات النظامية أبشع استغلال مما أنهك جسدها وأضعفها وانحرف بها عن مهامها ومسؤولياتها والتي اختلطت وتبعثرت وتداخلت بصورة أثرت على كفاءتها .
ووضح ذلك جلياً في كل القوات النظامية وبصفة خاصة جهاز الشرطة.. فمن المعلوم أن كل أجهزة الشرطة في العالم تتشابه وتتطابق في المهام والواجبات والاختصاصات، عدا الشرطة السودانية المنقوصة الاختصاص بأمر الأنظمة الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال بشقيها الديمقراطي والشمولي .
ولغياب أي مشروع وطني ثابت ومتفق عليه لكيفية الحكم والإدارة، فقد ظلت الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم البلاد، متحكمة بصورة مباشرة في الجهاز التنفيذي للدولة المتمثل في الخدمة العامة بشقيها المدني والعسكري.. هذا التدخل السياسي أفضى لإضعاف الجهاز التنفيذي وبالتالي إضعاف الدولة وتدهور خدماتها.. في المقابل تم تعظيم وإعلاء شأن الوظيفة السياسية بصورة جلبت الفتن والابتزاز والتدافع غير الأخلاقي، وأصبح الوسط السياسي يتصف معظم منسوبيه من الانتهازيين الدخلاء على هذا الوسط بتدني الكفاءة والقدرات.
وقد تسبب هذا النمط وهذه الصفات في بعد الأنظمة السياسية عن تحقيق الغاية الأساسية للحكم (والمتمثلة في تحقيق ازدهار الدولة في كل محاورها وصولا لتحقيق رفاهية المواطن أو على الأقل توفير العيش الكريم له) .
وبدلا من ذلك فقد انصرف أهل السياسة لمعاركهم الشخصية ومعادلاتهم الصفرية وكأنما الحكم هو غاية وليس وسيلة، والدليل ما شهده الشعب السوداني من تدافع نحو المشاركة في السلطة في السنوات القليلة الماضية من حوالي مائة حزب وكيان مغلوب على أمره ومنقسم على ذاته… وكان واضحا للمتابع العادي أن فتنة وابتزاز هذا السعي ليس بغرض المشاركة في السلطة للمساهمة في الإصلاح والنهضة (وهو أمر غير متاح وغير مسموح به) .. بل كان لاقتسام وظائف دستورية عسى ولعل أن تكون رافعة لتحقيق الثروة ، خاصة في ظل تحالف ملاحظ بين أهل السياسة وأهل المال .
تراكمات هذا الوضع في العهد القريب بالإضافة لتراكمات تاريخية ونفسية قديمة، اتحدت كلها في إحداث فتنة كبيرة وسط المجتمع والذي لغياب البوصلة والنموذج أصيب بعضه بداء فتنة تحقيق الثروة بأية وسيلة مما أفرز الجشع والجريمة والغبن والكراهية والعنف اللفظي والبدني والفساد المجتمعي، كما أصيب بعضه بالإحباط واللامبالاة بسبب انعدام الأمل في مستقبل أفضل مما أنتج جيلا غاضبا “ورافضا” لهذا المنهج، بينما حافظ باقي المجتمع على منهجه الأخلاقي رغم المكابدة والمعاناة ..
ما ذهبنا إليه آنفاً ليس بعيدا عن موضوعنا في صدر هذا المقال.. فقدر القوات النظامية (رغم أنها منزوعة الصلاحيات والإمكانيات) إلا أنها نفسيا” تمثل للمواطن وجه السلطة (ضل الفيل)، لذلك فالمواطن المغبون والنخب المناوئة للأنظمة تنظر لها بعين السخط التي تبدي المساوئ… بينما الأنظمة الحاكمة متنازعة بين الخشية من سطوتها وخطرها عليها أو في الاستقواء بها ضد المناوئين .. هذا الفهم الغريب الذي لا يشبه تفكير رجال دولة المؤسسات تسبب في إضعاف القوات النظامية (اختصاصات – قيادات – إمكانيات)… وكان الأثر بالغاً على الشرطة أكثر من غيرها وذلك للنظرة الخاطئة لها وعدم فهم مهامها كإحدى أهم مؤسسات الدولة المؤشرة لوجود السلطة خاصة في الأنظمة الديمقراطية… بل وعلى العكس من ذلك تم تحجيمها وتوزيع بعض اختصاصاتها للأجهزة العسكرية والأمنية والعدلية والتنفيذية…
وأعتقد جازماً (لو أن الشرطة كانت بكامل مهامها واختصاصاتها وإمكانياتها ومسؤولياتها عن عمليات الأمن الداخلي) لوفرت دماء عزيزة سالت منذ الاستقلال وحتى الآن، ولحافظت على الأرواح والممتلكات بأقل الخسائر وأقل قدر من استخدام القوة القانونية المشروعة…
أحد أبرز أخطاء الأنظمة الديمقراطية الَمتعاقبة (والتي ظلت في معظم الأحيان تعجل بنهايتها) هو عداؤها أو توجسها من القوات النظامية مع عدم فتح قنوات تواصل حقيقية ، لمعرفة حقيقة الأوضاع أو ما ينبغي أن يكون عليه الحال ..
تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية، إضافة لاستشراء السلوك الفوضوي والتمرد على النظم الذي أصبح سمة بارزة وسط قطاع كبير من المجتمع والجهاز الرسمي، يجعل كل أجهزة الضبط التربوي والضبط الاجتماعي والضبط الأمني في تحدٍ كبير يستوجب عليها حسن قراءة المشهد وحسن إدارته آنياً ومستقبلاً.
هذا الوضع يستوجب (ضمن ترتيبات تشمل كل أجهزة ومؤسسات الدولة) أن يتَم تأهيل جهاز الشرطة وإجراء تغيير جذري في عقيدته ومفاهيمه مع تمكينه من القيام باختصاصاته ومهامه ومسؤولياته كاملة بما يحقق بسط سيطرته على عمليات الأمن الداخلي كافة… وهذا لا بد أن يتم في إطار كلي يشمل كل القوات النظامية والأجهزة الأمنية بما يحقق تحديداً مثاليا للمهام والاختصاصات حسب الترتيبات المهنية المتعارف عليها دولياً:-
/1القوات المسلحة:
المحافظة على استقلال الوطن ووحدة أراضيه والدفاع عنه من أي مهدد أو عدو خارجي .
/ 2الحرس الوطني:
وهو قوة نظامية أصيلة تنشأ بقانون كباقي القوات، ويكون تسليحه أدنى من الجيش وأعلى من الشرطة المدنية، ويختص بَمهام إسناد مزدوج: للجيش في عمليات العدو الخارجي، وللشرطة في عمليات الأمن الداخلي، خاصة المواجهات التي يستخدم فيها السلاح الناري خارج إطار القانون (وهذا يحقق ميزة النأي بالجيش خارج الصراعات مع الأهالي ويحافظ على عقيدته تجاه العدو) .
وفي وضعنا الراهن يَمكن أن يكون الحرس الوطني هو قوات الدعم السريع والتي أثبتت كفاءتها وأهميتها في عمليات الأمن الداخلي (مثل الَمواجهات المسلحة وتهريب السلع وتجارة البشر) .
/ 3 جهاز الشرطة:
هذا الجهاز له مهام محورية وتماس مع كل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والأجهزة العدلية والأجهزة الإدارية والتنفيذية وشرائح ومكونات المجتمع… فهو قوة نظامية وجهاز أمني وقوة لإنفاذ القانون.. ويختص بتحقيق أمن المواطن وتأمين المرافق والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة والبعثات الأجنبية وتوفير الحماية المدنية وتعزيز الضبط الاجتماعي والسيطرة على كافة مهددات وإختلالات الأمن الداخلي وكافة معلومات وعمليات الأمن الداخلي ..
/4 جهاز المخابرات العامة:
يختص بمهام الأمن الخارجي وتأمين مصالح الوطن وتحييد المخاطر والمهددات .
من الضروري التذكير بأهمية المرحلة المفصلية الحالية التي يمر بها الوطن والتي تحتاج لجهد جميع أبنائه المخلصين للعبور به إلى آفاق نهضة شاملة في ظل مصالحة وتوافق وطني بعقلية القادة الكبار المتسامين عن الصغائر بعيدا عن تكتيكات أهل السياسة، خاصة وأن مقتضيات الأمن القومي تستوجب إعادة الثقة والاحترام لهذه القوات مع إحكام تحديد المهام والمسؤوليات .

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.