تشارلز ماكيننزي

رسالة من البروفيسور تشارلز ماكيننزي إلى البروفيسور مأمون حميدة في محبسه

عزيزي البروفيسور مأمون حُميدة:

أكتب إليك هذه الرسالة من أميركا، وأنا استرجع متأملاً الأوقات التي تشاركنا فيها الكثير من الأمور الأكاديمية وغير الأكاديمية لفترة تمتد الآن إلى قرابة 40عاماً، خاصة تلكم المتعلقة بالمساهمات التي قدمتها لبلدك السودان في العديد من مجالات الطب المداري (المناطق الحارة). وإني إذ أكتب عنك، في حقيقة الأمر، إني أكتب عن واحد من أكثر الناس استثنائية وتفرداً، من الذين كان لي شرف العمل معهم، وأشعر بالفخر والامتنان، وأنا أدعو ساجنيك إلى تأمل سيرتك العلمية الباذخة في مجال العلوم الطبية في أفريقيا. وتجدني في غاية الاستغراب، لحبسك لما يزيد عن الثمانية أشهر دون توجيه اتهامٍ أو تقديمك إلى محاكمة عادلة. وما حيرني أكثر أنك حصلت على قرار من النيابة السودانية بالإفراج عنك، إلا أنك إلى لحظة مكتوبي هذا رهين المحبس! ربما يا صديقي العزيز، ربما يكون من الأفضل أن أصف ببساطة وقائع مختلفة عشناها معاً خلال الصداقة التي جمعتنا عبر مرحلة مثيرة وغير عادية من مراحل الرعاية الصحية والتعليم للأمة السودانية والقارة الأفريقية. لقد كانت حقبة أسهمت فيها أنت بالكثير في العديد من جوانب الطب المداري الأساسي والتعليمي على نطاقٍ عريضٍ للصحة العامة.

لقد بدأ التعامل بيننا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت واحداً من مجموعة من الموهوبين والمتحمسين من العلماء والأطباء السودانيين الذين جمعهم برنامج جامعة ولاية متشجان الأميركية، كجزء من فريق عمل التف حول مشروع ناجح امتد لفترة 14عاماً، قوامه المعاهد الوطنية للصحة NIH والمعاهد الدولية للصحة النفسية ISDA في الأمراض الطفيلية، وكنت أنا وقتها استشارياً يعمل من منصبٍ في كلية لندن للصحة والطب المداري. وفي تلك الأيام الأولى التي عرفتك فيها كعضو في المجموعة التي تتعاون في أبحاث ومعالجة داء البلهارسيا الكبدي، تمكنت بخبرتك، مع إمكانيات التصوير السريري، من وصف خصائص الموجات فوق الصوتية لهذا الطفيلي الذي يفتك بالكبد، وكذلك آثار العلاج على التغيرات التصلبية.

قد بدأ أول تعاون علمي ونشر مشترك لنا للأبحاث في عيادتك شارع الاسبتالية (الخرطوم)، حيث استخدمنا للمرة الأولى الموجات فوق الصوتية لمراقبة الطفيليات الفيلارية في الموقع، وفي تلك الحالة مع الوحدة القشرية. وقد صارت تلك التقنية الآن النهج القياسي الذي يستخدم لمراقبة الديدان البالغة لدى مرضى عمى الأنهار، وكذلك في التجارب المضادة لمقاومة الدودة. وكانت تلك التجربة هي المرة الأولى التي شهدتُ واستفدتُ فيها من استعدادك لتجريب أساليب علمية جديدة، دفعت بالبحث في هذا المجال قدماً إلى الأمام، وهي نقطة قوة تتمتع بها وشهدتُها عدة مرات طوال الأربعين عاماً التي عرفنا فيها بعضنا البعض.

وبعد فترة وجيزة من تجاربنا بالموجات فوق الصوتية، بدأت واحدة من مساهماتك ذات الأثر المستدام في المستقبل الطبي للسودان، وهو العمل الذي أظهر نظرة مستقبلية ثاقبة وجهد شخصي متفرد. لقد بدأت الطريق الطويل لتطوير أحد اهم مراكز التعليم الطبي في المنطقة، وذلك هو جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا. ويعكس الاسم نفسه، قدرتك على الرؤية على مدى طويل يمتد عبر المستقبل، وهو في هذه الحالة المزج بين العلوم السريرية والتكنولوجيا الحديثة. وهو إنجاز مدهش جاء من رؤيتك ومن التزامك الشخصي، وكذلك فطنتك التجارية. ولقد كنت محظوظاً بقدر كبير للعب دورٍ صغيرٍ، من خلال قيادتك، في تكوين تلكم المؤسسة. وهذا أمر سأظل على الدوام أدين لك فيه بالامتنان.

ولابد لي من القول، إنني ظللت دائماً محتفظاً بشعوري بالدهشة إزاء قدرتك على الجمع بين تقديم الرعاية للمرضى، والسياسة والتفكير النقدي، وتحويل ذلك جميعه إلى فعلٍ. ومن الأمثلة الاستثنائية على ذلك الاجتماع الذي عقدته في الوقت الذي كانت فيه المشاكل في دارفور أساسية بالنسبة للعالم، عندما نجحت في إحضار العديد من الأطباء والعلماء السودانيين المغتربين من مواقعهم المهمة في جميع أنحاء العالم، لمناقشة ووضع خطة في كيفية تقديم المساعدات الطبية لأهالي دارفور. وبغض النظر عن التوجه الإنساني غير العادي التي أظهرته في ترتيب ذلك الاجتماع، الذي كنت محظوظاً جداً في حضوره، فقد كان أيضاً فرصة عرض لإظهار ذلك القدر من القدرات والمهارات التي يتمتع بها الأطباء والعلماء السودانيون في أرجاء العالم المختلفة، والذين توافدوا إلى الخرطوم نتيجة لما تتمتع به من سمعة وتأثير.

ومناسبة أخرى، أتذكرها في كثير من الإعزاز، وقد أظهرت بشكل غير اعتيادي التأثير الذي تتمتع به في السودان، وهي أول محاولة لعلاج عمى الأنهار في جنوب السودان. ففي عام 1995 نجح الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في وقف إطلاق النار، ومن ثم الحرب الأهلية في جنوب السودان عن طريق التفاوض. وكان هذا يعني أننا سنعمل مع الجماعات المتمردة في الجنوب. واتصلتُ بك على الفور لأتأكد من موافقتك على ذلك وجاء ردك سريعاً: “بالطبع، بالطبع، لكن دعونا نعرف بالضبط أين أنتم؟) لقد كان هناك بعض الضرر الذي ألحقه قصف الطلعات الجوية بأولئك الذين سنعمل معهم.

وكما أشرتُ آنفاً، شهدتُ الكثير من الأحداث الاستثنائية في السودان والتي كنت محظوظاً جداً لمعايشتها، كل ذلك من خلالك، ومن خلال حياتك غير العادية. وإحدى التجارب التي لا تُنسى والتي تؤكد نزاهتك وإيمانك بالحقيقة، كانت عندما حضرتُ محاكمة في الخرطوم كشاهد على شخصيتك. وفي تلك المناسبة، كنتَ قد أُتهمتَ بشكلٍ خاطئٍ، وأكثر خداعاً والتواءً، بارتكابك أفعالأ وهميةً لمصلحة جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا من قبل صحيفة غير مسؤولة. وكمسألة مبدأ، ومن منطلق الصدق والحقيقة، قمت باتخاذ خطوات لرفض الاتهام من خلال النظام القانوني. وأدليتُ بشهادتي عن شخصيتك، وخضعتُ بعدها للاستجواب من قبل محامي المدعى عليه. وعند ظهر ذلك اليوم بعد النظر في القضية، أتيتَ إلى المطار لوداعي، وأنا أُغادر السودان، اقتربتَ مني مبتسماٌ، فيبدو أن القضية تمضي بشكلٍ جيدٍ. والذي قلته لي بعدها حول شهادتي سيظل دائماً واحداً من النوادر المفضلة عندي عن السودان. قلتَ لي إن محامي المدعى عليه طالب بحذف الشهادة التي قدمتها ذلك الصباح بأكملها من سجل المحكمة. وكان منطقه هو أن شهادتي قد تُرجمت إلي العربية للمحكمة من قبل مترجم، “من الإنجليزية إلى العربية”، في حين أنني قد أقسمت على أنني أسترالي الجنسية وليس إنجليزياً، وأن المترجم لم يترجم من الأسترالية إلى العربية. وغني عن القول، إن المحكمة وجدت الأمر على ما يبدو مسلياً.

عزيزي مأمون، لقد كان من حسن وعظيم حظي أن أكون زميلاً لك لفترة طويلة من الزمان، وأن أستفيد كثيرا من حياتك غير العادية، ومن المثال المهني المتميز الذي ضربته لنا جميعاً، الذين حاولنا تحسين حياة أولئك الذين يعانون في السودان والبلدان النامية. هناك العديد من الخصائص التي تعجبني فيك، كالتفاني في خدمة بلدك، والمصداقية والقدرة على التفكير النقدي والإيمان القوي بالحقيقة، عندما ينبغي التصريح بها. وأنا محظوظ للغاية، لأن مساراتنا قد تقاطعت.

وأختم هذه الرسالة وقد تملكني شعور عميق بالامتنان للوقت الذي قضيناه معاً، لإبقائي متصلاً ببلد علمني الكثير، وبالإعجاب بما حققتَ وبما سوف تحقق في حياتك غير العادية. لقد صارت حياتي أكثر ثراءً لأنني تعرفت عليك
تشارلز ماكيننزي
بروفيسور علم الباثولوجي لأمراض المناطق الحارة جامعة متشجان (الولايات المتحدة الأميركية) وعمل أستاذاً في مدرسة لندن لطب المناطق الحارة، ومستشاراً لمؤسسة كارتر ومنظمة إنقاذ البصر البريطانية.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.