النذير (مشى الجنَّة)

المكلوم/ ياسر الكردي
(١)
حتى قبل لحظات من مُباغتة الموت له، كنتُ أظنُّ ألَّا مذاق أمرُّ من فقد الكبار، لكن بُعَيْدَ صعود روح ثمرة الفؤاد وقُرَّة العين، ابننا الرزين “النذير نزار أحمد الكردي ” إلى بارئها؛ تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك أن موت الأطفال لا يقل مرارة عن فقد الكبار، سيما لو كان أولئك الصغار مِمن حباهم المولى بعقول الكبار كحالة فقيدنا الذي لم يكمل السابعة بعد، لكن رغم ذلك فالصداقات التي بناها خلال تلكم الأعوام القليلة، و(المراسيل) التي أنجزها بالفريق لعمَّاته وخالاته وجيرانه، بطيب خاطر وسماحة نفس لكل من كلَّفه؛ ربما تفوق تلك التي أنجزها من بلغوا من العُمرِ عِتيّاً..!!

(٢)
قبل أن يختاره الله إلى جواره بأقلِّ من ساعة كان “النذير” يتنقَّل بيننا كالفراشة مُستمتعاً باللعب مع أقرانه “دعاء” و”دانية”.. شاهد معنا بالصالون نشرة العاشرة صباحاً وفي تلكم الأثناء اتصل بي عمّه “النذير” من الدوحة وسألني عنه – تحديداً- فقلتُ له إنه في أتمِّ صحة وأحسن حال وهو الآن بالقرب مِني يسمعُ في مكالمتنا هذه.. لم يخطُر ببالي مطلقاً أن (حبيب القسا) سيكون في رحاب الله بعد أقلّ من ساعة، وإلا لكنتُ أعطيته عمّه “النذير” ليقول له كلمة وداع.. لكنها أقدار الله التي لا يعلمها إلا علَّام الغيوب..!!
قبل أن تنتهي محادثتي مع “النذير” غادر “النِّذيِّر” – كما يحلو لنا مناداته – الصالون بكامل صحته وتمام عافيته، حيث دخل على عمته “إقبال” وطلب منها أن تذهب معه إلى (الجيران) لكيما يشتري حماماً يضيفه إلى الآخر الموجود هناك، وكان سبب إصراره على ذلك أنه سيغادر إلى حدَّاف حيث تنتظره على أحرِّ من الجمر أمّه وإخوانه وعدد كبير من أصدقائه… فقالت له عمته إقبال (كويس بس خلّيني أعمل الفطور لي أبوك أحمد عشان عندو علاج) … فانصاع الصغير عُمراً والكبير عقلاً إلى حديثها بلا ضجر، أيضاً قبل يومين من وفاته طلب من عمّه “عبدو” أن يشتري له (كُرة قدم) ليلعب بها مع أصدقائه بالقرية..!!
قبل أن نكمل وجبة الفطور التي أعقبت نشرة العاشرة وكان هو أحد مُشاهديها؛ ودون أدنى مُقدّمات دخل فقيدنا وحبيبنا وقُرّة أعيننا؛ في حالةٍ كُنَّا نحسبها على أسوأ الافتراضات (تشجُّنات ملاريا) ولكن هيهات..!!

(٣)
ذهبنا به سريعاً إلى أقرب مشفى وهو مركز العمران الطبي، وسريعاً دخلتُ على طبيبة كان المرضى يتراصون في انتظار الدخول إليها… قلتُ لها (يا دكتورة لو سمحتي عندي ولدي خارج المركز عايزك تمشي معاي تشوفي الحاصل عليهو شنو في العربية لأنو تعبان شوية) .. فلبَّت النداء سريعاً وفي لحظة خروجنا سوياً رأيت شاباً شهماً يحمل “النذير” ويتوجّه به مع طبيبة أخرى إلى إحدى الغرف، استخدمت الطبيبة سماعة الكشف ثم تحسّست النبض وقالت لي بحسرة: (النبض متوقّف لكن لن نيأس مطلقاً).. وسريعاً طلبت أن يأتوا لها بزميلتها الطبيبة الأخرى ليبذلا معاً كل المُمكن وبعض المستحيل، لإنقاذ طفل عزَّ عليهما فراقه رغم أنهما لا يعرفانه ولم يلتقيا به من ذي قبل، وعندما باءت كل المحاولات بالفشل خنقت العَبْرَة إحداهُما فخرجت دون أن تنطق بشيء، أما الأخرى فقالت لي بعينٍ دامعة: (البركة فيكم).. طلعتُ أنا من الغُرفة بعد أن أظلمت الدُنيا أمامي، لأجد الطبيبتين تجهشان بالبكاء في الممر الكائن خلف العيادات، ووقتها كان عدد كبير من المرضى في انتظار، ملائكة رحمة ما زلتا تكفيفان دموعهما على موت “النذير”..!!

(٤)
أمَّا أمّه المكلومة المُحتسبة السيدة الفضلى “زينب” فيبدو أنها كانت ترى بقلب الوالدة ما لم يخطُر على بال أحد، بدليل إصرارها على زيارته رغم ظرفها الصحي، وبسبب ذلك فقط كُنّا نقسم لها صادقين أن “النذير” بخير وصحة وعافية، ليس ذلك فحسب بل كان هو يتصل عليها باستمرار حتى قُبيل وفاته بساعتين كان يتحدّث معها وقال لها: (يا أُمي أنا جاييك وجايب ليك معاي قروش)..!!

(٥)
في المقابر كان عدد الكبار يصعب حصره، وفي ذات الوقت كان عدد الأطفال يضاهي عدد الكبار ممن أتوا لوداع الحبيب الرزين “النذير “..
وفي صالون العزاء أقسم الشقيق/ “سالم السماني” أن ابنه “مازن” رفض الأكل والشرب والكلام حتى مع والدته حُزناً على موت صديقه “النذير” وذات التصرُّف فعله ابن عمته “ياسر عصمت” و”المك أنور” وابن شيخ “صالح” – إمام المسجد- وربما كثيرون لم أسمع (حكاويهم) عن “النذير”.

(٦)
آخر ما أودُّ الإشارة إليه إجابة لسؤال وجهه العزيز/ عصمت (أبو عمّار) إلى “الطيب نزار” ذي الأربعة أعوام والذي كان مرافقاً لشقيقه الفقيد، فعندما سأله “عصمت”: (الطيب أنت كنت وين؟؟ والجا معاك منو؟؟)… أجاب: (كُنَّا في المنارة مع أبوي أحمد وجات معاي “دانية” و”دعاء” لكن النذير أخوي ما جاء معانا… لأنّو مشى الجنَّة).

أخيراً
اللهم إنَّ عبدك “النذير” قد لبَّى نداءك بصحائفٍ بيضاء وقلب ينبض بالحب والخير والجمال، فتقبَّله قبولاً حسناً يا رب واربط على قلوب والديه وارزقنا معهم الصبر الجميل وأخلف لهم بأبرك منه واجمعنا به في الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين يا الله.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.