خالد التيجاني …نصف رآي

"نظرية الناموسية"!!

(1)
أما “نظرية الناموسية” فهو ما استخلصته من حكمة في حديث للراحل د. جون قرنق في المؤتمر الصحفي الوحيد الذي عقده بالخرطوم بصفته النائب الأول لرئيس الجمهورية، كان ذلك قبيل يوم واحد فقط من رحلته التي لم يعد منها، وذلك عندما سئل عن توقعاته لمردود علاقات السودان الخارجية بعد تشكيل حكومة اتفاقية السلام، وكيف سيهبط الخير العميم على البلاد ويفيض بفعل الحوافز التي وعد بها المجتمع الدولي بتحقيق السلام، لا سيما وأن الاتفاقية حظيت بتوقيع العديد من رموز الدول الكبرى شهوداً عليها تقدمهم الجنرال كولن باول، وبضمانة مجلس الأمن الدولي حارساً على الوفاء بتعهداتها.
(2)
كان الظن أن الدكتور قرنق لن يتردد في التأمين على توقعات السائل المطمئن لوعود المجتمع الدولي، والركون إلى تعهداته، وبدأ رده مفاجئاً بحكاية “نحن في جنوب السودان عندنا بعوض كتير، وعشان كدة بتجينا ملاريا كتير، لو عاوز بعوض ما يعضيك، وما تجيك ملاريا، لازم تنوم في ناموسية، ولازم تقفلها كويس عشان بعوض ما يخش، لو خليت محل في ناموسية ما قفلته كويس، ودخلت ناموسة عضتك، وجاتك ملاريا، ما تلوم بعوض، لوم نفسك ليه ما قفلت ناموسيتك كويس”، وشرع يشرح أن السياسة الخارجية لن تفيد بشيء إن لم تكن هناك سياسة داخلية فعّالة قائمة على توافق وطني، وقدرة على تفجير الطاقات المحلية، والحماية من التدخلات الخارجية، لأن الخارج لن يساعدك مجاناً، ولا يفعل إلا ما يحقق مصالحه.
(3)
ربما كانت هذه النزعة التي طرأت على قرنق بعد الاستقبال الكبير الذي حظي به في الخرطوم، والذي أنعش آماله في إمكانية تحقيق رؤيته وطموحاته ضمن سودان موحد هي التي سارعت بتغييبه، ولهذه شواهد ربما نعود لها في وقت لاحق، لكنها تقف شاهداً في مقام دعوتنا لحكومتنا بأن تولي قصارى جهدها بإعطاء الأولوية للداخل وأن تنهض لتأسيس مشروع وطني جامع يفجر الطاقات الثورية وينقلها من الحالة الاحتجاجية إلى النهوض من أجل الإنتاج والبناء. فلا أحد ينادي بقطيعة مع الخارج، ولكن أيضاً ليس من الحكمة في شيء أن تترك واجبك المنزلي مهملاً، ثم تتسوّل دعم الخارج، وتبقي أيديك مكتوفة في انتظاره أعطوك أم منعوك حسبما يخدم أجندتهم، ودون أن يعني ذلك بالضرورة تحقيق مصالحك الوطنية.
(4)
والشاهد أيضاً في حكمة ما تحدث به الراحل قرنق هو ما تحقق على أرض الواقع من نظرته المحذرة من الركون للوعود الخارجية، ذلك أنه لم تحظ قضية في السودان بدعم دولي ظاهري حشد له من التأييد الواسع كما حظيت به اتفاقية السلام، ولكن ذلك كله لم يغن عن السودان شيئاً لقد تبخرت تلك الوعود بتمويل لم يتعد نحو أربعة مليارات دولار فقط بُذلت في مؤتمر أوسلو بهدف إنعاش المجتمعات المتأثرة بالحرب، ولم ينفذ شيء ذو بال من تلك البرامج الاقتصادية والتنموية المفصلة التي عكف عليها خيرة الخبراء الوطنيين، وبالطبع لم يعدم المجتمع الدولي الأعذار لتبرير عدم الوفاء بتلك التعهدات.
(5)
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، لقد تسبّب انتظار الحلول الخارجية فيما هو أفدح، لم يكن الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب هو أولوية اتفاق السلام، بل كان أقرب لشرط جزائي إن لم يتحقق هدفها الأول وهو تحقيق تحوّل ديمقراطي يستجيب لكافة أشراط واستحقاقات ذلك من أجل الحفاظ على وحدة السودان، ولكن تواطأت عواصم القرار الدولي وهي تغض الطرف عن متطلبات هذه الهدف الجوهري، وآثرت استجابة لأجندتها الصمت على سعي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتقسيم السودان، لتنتج عن ذلك دولتان فاشلتان بامتياز، لم تفلحا سوى في إعادة إنتاج الحرب في كليهما.
وللأسف لم نتعظ من هذه التجربة المريرة، ويخطئ الذين ينتظرون حلولاً خارجية، وعليهم ألا يتفاجأوا بأن الأمر سينتهي بإعادة إنتاج نظام شمولي آخر بدعم بعض أصحاب القرار الدولي بدأت إرهاصاته تطل بوضوح، ذلك “أنه لا يوجد غداء مجاني”!.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.