تصفيات متبادلة!

-١-
وفر لي ليل منع التجوال من الساعة السادسة مساء بسبب الكورونا، فرصة ماتعة لقراءة مذكرات الدكتوربشير عبادي ، الرجل تقلد وزارتي الصناعة والنقل والمواصلات في العهد المايوي.

دكتور عبادي صاحب القامة المديدة والشخصية القوية، عرف بأنه من أميز وأشجع الوزراء في الحقبة المايوية، باعتراف الرئيس جعفر نميري.

دكتور بشير عبادي من أصحاب المؤهلات الرفيعة، نال الدكتوراه في الهندسة من الجامعات الأمريكية وعمل بالتدريس بجامعة الخرطوم، واختير للوزارة بمعيار الكفاءة لا الولاء وبطاقة الانتماء.

أكثر ما لفت نظري في الكتاب أنه يجمع بين المتعة والفائدة والمعلومات الثرة والسرد الشيق.

ما ذكره عبادي عن التصفيات التي تمت في سنوات مايو الأولى للكوادر غير اليسارية في الخدمة المدنية والجامعات، كانت مبنية على اتهامات كيدية بالفساد داخل المصالح الحكومية.

-٢-
التصفية الأولى، قام بها تحالف الشيوعيين والقوميين العرب ضد من تم توصيفهم باليمينيين والرجعيين.

وعقب انقسام ١٩ يوليو واشتعال الصراع بين الحليفين، قام القوميين بتصفية وجود الشيوعيين –أصدقاء الأمس-داخل مؤسسات الدولة .
انتبه دكتور عبادي في مذكراته، كيف أن الصراعات الوظيفية والخلافات الشخصية، كانت تتخذ من لافتات الصراع السياسي واجهة لتلك التصفيات الكيدية.

أكثر ما أعجبني في ذلك الكتاب موقف زملاء النقابات والمهن في الدفاع عن زملائهم من مقص التصفية السياسية.

-٣-
أورد بشير عبادي: أنه عندما عاد من إجازته من أمريكا وجد الجو السياسي مليئاً بالحركة وشعار التطهير ظل سيفاً مرفوعاً في وجه الخصوم السياسيين.

وذلك بدوافع سياسية وشخصية وتنافسية وقد كان عبادي وكيلاً منتخباً لنقابة المهندسين.

قال إن النقابة اجتمعت وقررت أن تتصدى لحماية عضويتها من التصفيات الجائرة .

وألا يصاب أحد بسوء وألا يؤخذ بجريرة أو تهمة دون إثبات أو أن يمسه ظلم أو عنت في ذلك الجو المليء بالشائعات.
اتهامات الفساد طالت مهندسين، سمحت النقابة بإجراء التحقيق معهما ولكنها اشترطت على الوزير إذا ثبتت براءتهما، أن يعلن ذلك في بيان وينشره على الناس وأن يعودا إلى عملهما معززين مكرمين.

وكم كان وزير الري المهندس مرتضى أحمد إبراهيم -رغم أجواء الاستقطاب -رجلاً شجاعاً وشهماً، حينما أعلن براءة المتهمين بعد انتهاء التحقيقات مع الاعتذار لهما.

-٤-
وأنت تقرأ في مذكرات دكتور بشير عبادي، يمر عليك عزيزي القارئ شريط الذكريات لعمليات ما سمي بالتطهير وإحالات الصالح العام ، في كل الحقب، وما حدث من تجريف للخدمة المدنية مع تقلبات السياسة السودانية، ما بين انقلاب وثورة وانتقال.

ما يفعل الآن في الفترة الانتقالية من تصفيات واتهامات بالفساد، فعلته الإنقاذ حينما جاءت للحكم في١٩٨٩ .

وحدث قبل ذلك بعد ثورة أكتوبر وانتفاضة إبريل وقد يحدث غداً مع أي تغيير قادم .

-٥-
التاريخ في السودان يعيد نفسه بغباء غريب، هذه المعارك السياسية الصغيرة، والتصفيات المُتبادَلة (الحفر والردم)، أضعفت أجهزة الوزارات، وأفسدت بيئة العمل، بروائح التآمر والمكائد!

وأورثت أجهزة الدولة السودانية عللاً وأمراضاً أقعدتها عن النهوض ..مع كل تغيير يظل الوضع على ما كان عليه بل يزداد سوءا.

انقطاع التجارب وعدم تتابعها، وإهمال كُلِّ قادمٍ النظرَ في دفاتر وأوراق سابقيه، جعلنا نُعيد إنتاج تجاربنا الفاشلة، ونُكرِّر أخطاءنا الفادحة، نقطة وشولة.

وكأننا في مسرحية دائرية عبثية، تتكرَّر فيها الفصول بذات الأحداث والوقائع، مع اختلاف أدوار المُمثلين وتغيُّر الأسماء.

-أخيراً-
ظللنا نقول : الأوفق والأفيد لاستقرار الوطن ، ألا تُسارع السلطة الجديدة لسياسة تمكين مُضادٍّ يُعيد إنتاج التجارب السابقة.

حتى نخرج من تلك الدائرة الخبيثة، كان على الحكومة الانتقالية تحكيم معايير فحص الكفاءة، مع تفعيل آليات المحاسبة وألا يكون العقاب أو الابعاد على الهوية السياسية.

حتى يسقط من جاء إلى الموقع برافعة الولاء لا الكفاءة، دون أسفٍ عليه، ويُحاسَب بصرامةٍ من أجرم وأفسد في حق الوطن ومال الشعب، وكان الانتماء الحزبي له غطاء، تحت بند (فقه السترة).

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.