بقلم : سعيد عباس
قال أفلاطون إن الموسيقى هي أصوات للوصول بالروح للتربية والفضيلة والسمو بها، فكان نجمنا لهذا اليوم من أمهر وأبرع من يدوزن تلك الأصوات، ويهدهد بها الأنفس، ويسمو بأحاسيسها إلى عالم الهدوء والسكينة، وصولاً إلى سدرة منتهى الوجد والشجن، وطلاوة اللحن والنغم، إنه نجمنا لذلك اليوم الموسيقار موسى إبراهيم .
)1)
وُلد موسى محمد إبراهيم في عام 1943م بالخرطوم بمنطقة القوز، وشب مولعاً بالعزف والموسيقى والأناشيد الوطنية والعسكرية التي كان يسمعها ويراها في طوابير الجيش الإنجليزي في ميدان (عباس) المسمى حالياً بميدان (جاكسون)، حيث كان أخواله من أبرع العازفين في تلك الفترة، فكان يستغل أوقات راحتهم، ويعبث بآلاتهم حتى أجادها وبرع فيها، وبينما هو في الحادية عشرة من عمره كان يخرج من مدرسة كُتاب الخرطوم في فترات الراحة (الفسحة)، ويقفز من سور المدرسة لينزوي في ركن قصي ويمارس هوايته المفضلة في الاستمتاع برؤية الطوابير الموسيقية للجيش الإنجليزي، وربما تغيب عن الحصة في كثير من الأحيان بسبب تلك الموسيقى، ولكن في يوم من الأيام حدث ما لم يكن في حسبان الفتى، وذلك عندما لمحه أخواله وهو هارب من المدرسة ليتأمل موسيقى الجيش الإنجليزي، فحدثت له إشكالية كبرى مع والدته بعد أن عرفت الخبر .
(2)
علمت والدة موسى التي كانت تحبه كثيراً بأنه كان كثير (الزوغان) من المدرسة إلى موسيقى القوات الإنجليزية فتشاورت مع أخوانها، أي أخواله، عن حل المشكلة، فقالوا لها هو محب ومتعلق بالموسيقى، لماذا لا ندخله مدرسة الموسيقى العسكرية، فوافقت والدته على ذلك، وبالفعل ذهبوا به وهو صغير لم يتجاوز الحادية عشرة إلى المعسكر، حيث كان أصغر فرد في الدفعة، فقدم موسى أنموذجاً جيداً لفتى صغير في بواكير صباه يعشق الموسيقى، ولكن كانت هنالك بعض الإشكاليات قد حدثت وهي تغيب الكثير من الدارسين في فصل الموسيقى، بل وهروب بعضهم، لأن الدراسة الموسيقية كانت مصحوبة بتدريبات عسكرية قاسية للحد البعيد من الضابط الإنجليزي، مما جعل معظم أفراد الدفعة يهربون، وقتها جمع الضابط المسؤول من الدفعة كل أفراد المعسكر، وكان يسأل كل فرد سؤالاً واحداً هو هل تحب الموسيقى وترغب بالاستمرار معنا؟ إذا كانت الإجابة بلا يقوم “الخواجة” باستبعاد الشخص مباشرة، حتى تبقى عدد قليل جداً من الدارسين، حينها طلب “الخواجة” من المسؤولين بتجنيد أفراد من أقاليم وولايات السودان المختلفة، دون حصر التجنيد على أبناء الخرطوم فحسب، وبالفعل تم إحضار عدد كبير من الراغبين، واضطر موسى لإعادة سنة أخرى مع الطلبة الجدد، ويذكر أن من ضمن أبناء تلك الدفعة الموسيقار عثمان (ألمو)، ومحمد ملاك، وعكاشة، ومحمد مرسال، وعلى المصري، وقتها وضع موسى أول خطوات التفوق لحصوله على المركز الأول في الدفعة، وبدرجة امتياز ليحصل على ترقيتين في آن واحد ليظفر على شريطين .
(3)
أصبح موسى عازفاً كبيراً بمدرسة الموسيقى بالجيش السوداني، فلفت نظر قادته بانضباطة العالي وسرعة بديهته وذكائه الحاد في حفظ الأعمال الموسيقية الجديدة، حتى رشحه قائد مدرسة الموسيقى في ذلك الوقت الموسيقار أحمد مرجان للابتعاث لدورة موسيقية متقدمة بجمهورية مصر العربية، وقتها كان في رتبة (الشاويش)، وبالفعل وصل القاهرة، ودخل معهد الموسيقى، وأظهر نبوغاً وتفوقا أبهر به كل أساتذته ومعلميه، حتى طلب منه رئيس الفرقة الماسية لأوركسترا الإذاعة التلفزيون بمصر أن يعزف معهم، وكانت هذه الفرقة التي تسمى بالماسية تعزف لأم كلثوم، وعبد الوهاب، وشادية، وعبد الحليم حافظ، وعمالقة الغناء بمصر، ولكن موسى اعتذر بحجة أنه عسكري مبتعث لمهمة معينة في دورة تدريبية فقط، ولا يستطيع الخروج من المسار المحدد له، وأثناء دراسة موسى بالقاهرة علم أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر سيزور السودان في 29 أغسطس 1967، وذلك على خلفية هزيمة عام 1967م، أو ما عرف بالنكسة، وقد عرفت القمة بالخرطوم باسم قمة (اللاءات الثلاث) وقتها دخل موسى إلى المعهد، وحمل مظروفاً كبيراً، وخرج به بطريقة سرية، بعد أن أخفى المظروف داخل بعض ملابسه، وسلمه مباشرة للسفير السوداني بالقاهرة، وطلب منه تسليم ذلك الظرف لقائد مدرسة الموسيقى السودانية، على جناح السرعة، وبالفعل وصل الظرف إلى الخرطوم بمدرسة الموسيقى العسكرية، وعندما تم فتحه، وجدوا أن موسى كتب فيه نُوت موسيقية لأحدث المارشات العسكرية المصرية وأجملها، وطلب منهم التمرين عليها حتى يستقبلوا بها الزعيم جمال عبد الناصر بالخرطوم، وبالفعل أتقن العازفون النوتة بصورة سريعة ومذهلة، وعزفت عند وصول عبد الناصر، وبعضها عزف في دعوة العشاء المسائية، فنادي عبد الناصر أحد الوزراء، فسأله قائلاً هل من الموسيقيين العسكريين عازفون مصريون فقالوا له لا، فتعجب عبد الناصر أيما إعجاب لدقة التنفيذ.. وبالمقابل تم إرسال إشارة عاجلة من مدير معهد الموسيقى المصري، لموسى إبراهيم فسأله هل يوجد عازفون مصريون بالسودان في الجيش؟ فقال لا، ثم أردف قائلاً: “ولكن لدينا مارشات حديثة علمنا أنها عُزفت في استقبال عبد الناصر بالخرطوم” هل تعرف عنها شيئاً؟”، فقال: “الله أعلم لا أعرف شيئاً، ولكن في الخرطوم العساكر يستمعون إلى إذاعة وادي النيل وصوت القاهرة، فقال القائد: “نحن لم نبثها بعد”، فقال موسى: “الله ورسوله أعلم” .
(4)
انتهت الدورة التدريبية لموسى، ونال شهادات التخرج بدرجة امتياز، وكانت شهاداته في (التنويت الموسيقي والتلحين، وقيادة الأوركسترا) وعندما رجع إلى الخرطوم احتفل معه قادته احتفالا كبيراً لتفوقه بدرجة امتياز، ورفعه رأس السودان عالياً، وتمت ترقيته إلى رتبتين دفعة واحدة، فقد كان شاويشاً، وأصبح الآن برتبة (صول)، ثم ابتعث إلى الكلية الحربية لدورات متقدمة اجتازها بنجاح باهر، وتمت ترقيته إلى رتبة الملازم أول، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، ولكن قبيل ذلك شهدت الإذاعة السودانية إشكالية كبرى، وهي إضراب الفنانين والعازفين بقيادة علاء الدين حمزة، وعبد الفتاح الله جابو، بعد أن تركوا فراغاً فنياً كبيراً، كاد أن يوقف الإذاعة، وذلك بسبب مطالبة الفنانين بزيادة أجورهم ومرتباتهم، وقتها جاءت إشارة عاجلة لموسى محمد إبراهيم تطلب منه مقابلة وزير الثقافة الإعلام، وبالفعل ذهب وقابل الوزير، ووجد مع الوزير مدير الإذاعة، محمد خوجلي صالحين، ثم عرّفهم الوزير على بعض، ولم يدرِ موسى ماذا سيحدث، فقال له الوزير أنت مبتعث من قبل وزارة الثقافة والإعلام لمدة عامين قابلة للتجديد، ولكن سيكون مكتبك بالإذاعة، فوافق موسى، ونفذ التعليمات، ولكن قبل أن يستلم مكانه بالإذاعة قدم تقريراً في كتيب لجهاته المختصة، يشرح فيه النواقص ومتطلبات المرحلة المقبلة للمدراس الموسيقية، وكان معه في الإشراف على ذلك الضابط جعفر فضل المولى، في لجنة الموسيقى، وضابط آخر هو زين العابدين محمد أحمد عبد القادر، ولكن كانت المفاجأة الكبرى هي انقلاب النميري في 69، والمفاجأة الأكبر أن عضو لجنة الموسيقى الذي كان ينتظر معهم قرار التقرير الذي أعدوه كان من ضمن الضباط المنقلبين على النظام، وأصبح وزيراً بحكومة مايو فيما بعد، ذلك الضابط هو زين العابدين محمد أحمد عبد القادر .