ما يُحيُّر العقل هذا السؤال: لماذا التهافت واللهفة و (اللُّعاب) على مبنى شارع المك نمر؟ هل يقتصر الدافع على الأوراق الخضراء التي أضحت مقياسًا لأسعار السلع (صعودًا) حتى في أسواق (السعف)؛ وربما يتعداها إلى تنوع العناصر الغذائية في (كافتيريا) المبنى حديثة الطراز، وجاهزيتها لإعداد (سندويتشات) الكافيار، وتوابعها من أطباق (الفالوذج واللوزنج) التي يلتهمها بشراهة من يضعون على رؤوسهم تيجاناً من العاج، ولا ترتد أعينهم إلى أسفل لترى أقدامًا تنتعل (الرمضاء) وتقتات الفتات.
ويا من تتشدقون بلاءاتكم الهشة (لا حوار لا مشاركة لا مساومة)؛ ألا تعلمون أن من يحكم العالم الآن حقيقة هم أصحاب الأكتاف المرصَّعة بالنجوم، والصدور المُزوَّقة بالأنواط والنياشين؟ وأن الحُكَّام المدنيين ما هم إلا مجرد واجهة أنيقة؟ (شاشة) ضخمة تعرض تفاعلات حركة الحياة اليومية بأحداثها الداخلية والخارجية، أما القرارات الاستراتيجية والمصيرية فإن مهمة الحاكم المدني تقتصر على التوقيع أو البصمة، ولا يعدو ان يكون مجرد (أراجوز) يثرثر على المنصة؛ بينما تحرك خيوطه أنامل العسكر ببراعة ومهارة فائقة.
فيا أيها الممانعون عن الجلوس مع العسكر؛ لا تكابروا وتجحدوا حقيقة أن جيوش العالم هي التي تصنع الأحداث، وهي التي ترسم حبكتها وتُحدِّد بداياتها ومسارها ونهاياتها، والمدنيون يخضعون لها خضوعاً كاملاً شاءوا أم أبوا، وإلا أجيبونا بصراحة وتجرُّد، ودون محاولة لغمط دور العسكر في بناء الدول والمحافظة على وجودها وقوتها: هل كان في مقدور البيت الأبيض أن يبسط هيمنته على العالم بمعزل عن (البنتاغون)؟ وهل كان الكرملين سيجرؤ على اقتحام أوكرانيا دون موافقة وزارة دفاعه.
مانعوا كيف شئتم، لكننا نعلم أن دخولكم مبنى مجلس الوزراء لا يعني إقصاء العسكر، مكابرون والله، ستركضون إليهم كلما استعصى عليكم تنفيذ أمر أو قرار اتخذتموه، وستضجُّون وتفزعون استنفاراً للقوات المسلحة عند الشدائد والمحن.
لا ندري لماذا يصر المدنيون على احتكار التفكير والرأي؟ لماذا يعمدون إلى إلغاء عقل كل من يتزيَّا بالبدلة العسكرية؟ ويحجبون عنه حق التفكير وإبداء الرأي؟ ألا يحمل بطاقة هوية سودانية، وله عقل وثقافة ومشاعر وطنية دفاقة، وقد يتفوق على كثير منكم رؤية وبصيرة وقراءة متعمِّقة للأحداث واتجاهاتها ومآلاتها، وربما يفوقكم إبداعاً ومهارة في شؤون السياسة والإدارة، فما لكم كيف تحكمون؟! انسحاب العسكر إلى الثكنات لا يُلغي تأثيرهم على المشاهد العامة، ولا يُنهي مشاركتهم في صناعة الأحداث، وفي إيجاد حلول ناجعة لمعضلات الوطن. جيشنا يا سادة له عقيدة ومُثلٌ عليا وهدف أسمى، يمزجها جميعها لتكون بلسماً لجراح الوطن، وترياقاً لوحشة المواطن ومعاناته الفظيعة، عساكرنا لا يطرقون أبواب السفارات، ويَحْذرون ويُحذِّرون من محاولات الاستدراج والتوظيف التي قد يقع في شراكها طارقو الأبواب من ضعاف الإحساس بالوطن، ويحرصون على درء أي أخطار تتهدَّد الوطن والمواطن.
ونقول لأصحاب الدلال والتمنع ـ مع قليل من التصرف والتعديل ـ كما قال هاملت لبولنيوس: احرصوا على تحسين علاقتكم وتعاملكم مع العسكر؛ لأن ما تقولونه وتفعلونه معهم سيُسجَّل في كتب التاريخ، ولئن يُكتب على شواهد قبوركم أقبح الكلام؛ خير من أن توصفوا بالشرِّ والنفاق وأنتم أحياء.
Prev Post
Next Post