في أحد المجالس كان الإبن يصب القهوة للضيوف الذين قَدِموا في زيارة لأبيه، فانسكب منها شيء على فرش المجلس، توقع البعض من الضيوف عقاب الولد وتوبيخه من الأب لكونه سكب القهو على الفرش، ولكن حصل العكس، حيث لم يعنف الوالد ابنه على هذا التصرف، ولم يصرخ عليه كما يفعل أكثرنا، بل ابتسم وقال:
(وللأرضِ من كأس الكرام نصيبُ)، فجعل هذا من الكرم الذي يُكافأ عليه الإبن، وليس من الخطأ الذي يُعاقب عليه، فما ﻣﻦ ﻗﻠﺐ ﻳﺴﺎﻣﺢ ﺇﻻ ﻋﺎﺵ ﻣﺮﺗﺎﺣﺎً ، ﻭﻣﺎ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ ﺗﺮﺿﻰ ﺑﺎﻟﻘﺪﺭ ﺇﻻ وﺑﺎﺗﺖ ﺳﻌﻴﺪﺓ، فالتربية بلطف وسماحة أنجع في التعليم وأرسخ في التعلم، وكل شخص تقابله يخفي وجعاً لا يعلمه إلا الله، فكن بلسماً للجراح دائماً، ولا تكن علقماً يزيد الجُرحَ عُمقاً، وعامل الناس وكأنك تتصفح كتاب، تتجاهل السخيف وتمزق السيء وتتوقف عند الأجمل، وكن لطيفاً بحديثك، فالبعض يعاني من وجع الحياة وأنت لا تعلم، وحين قال يعقوب عليه السلام: وأخاف أن يأكله الذئب، فقد يوسف وفقد بصره، وحين قال: وأفوض أمري إلى الله، عاد يوسف وعاد بصره، فلنفوض أمرنا لله، فلا يوجد أحد يخلو من ضغوطات الحياة، فنحن نعيش على أرضٍ أُعِدت للبلاء ولم يسلم منها حتى الأنبياء.
قال الله تعالى في سورة آل عمران: (قل إن الأمر كله لله)، فإذا خشيت من سطوة جبار لا تستطيع ردها، أو أمرٍ تخشى عاقبته، تذكر قوله تعالي: (قل إن الأمر كله لله).
وفي ذات السياق تحضرني قصة أن أحد النساء تشاجرت مع زوجها وتخاصموا بسبب الظروف المعيشية الصعبة والتي أصبحت بنظرها لاتطاق، فقررت ترك البيت والهروب منه، وفعلاً عقدت العزم على ذلك، وانتظرت أولادها وزوجها حتى ناموا، وعندما خرجت من البيت، كانت تتسلل بجانب الجدران وتمر بجانب شبابيك بيوت الحي من أجل أن لا يراها أحد، وبينما هي على ذلك، سمعت عند أحد الشبابيك أم تدعو الله وتسأله أن يشفي إبنها المشلول حتى يلعب ويعيش مثل بقية الأطفال، وسمعت في بيتٍ آخر امرأة تدعو الله أن يرزقها بطفل يزين حياتها، كما سمعت في بيتٍ آخر، زوجة تدعو الله أن يصلح زوجها ويهديه إلى الصواب، وسمعت بنت تبكي وتقول يارب لقد اشتقت لأمي ولكنني أعلم أنها لن تعود، وسمعت واحدة أخرى تقول لزوجها صاحب البيت سيطردنا، قل له يعطينا مهلة إضافية حتى يرزقك الله وتسدد له الإيجار، سمعت هذه المرأة الشاردة مشاكلاً متنوعةً في كل بيت، لم تكن تحس بها في بيتها، وأيقنت تماماً أن الناس الذين يتظاهرون بالسعادة ويبتسمون في وجوه بعضهم، هم في الأغلب يخفون بداخلهم ألماً ووجعاً لايعلم به أحد، هذه المرأة بعدما سمعت كل هذه المنغصات، راجعت نفسها وعادت مسرعةً إلى بيتها وشكرت الله على نعمة البيت والأولاد والزوج.
والعبرة أن كل البيوت فيها ما فيها من المشاكل والمنغصات، فلا تظنون أن كل من يبدو أمامكم مسروراً وأنه يعيش حياةً مثالية، فخلف هذا الوجه البشوش آهات ومنغصات لاتعلمون أنتم بها، وكثير من الناس يتظاهرون بالسعادة، لأنهم لا يريدون أن يطلع أحدٌ منهم على عمق حياتهم ومشاكلهم الشخصية التي ربما يزيدها الناس غلقاً واظطراباً، فلنطلب العون والستر من الله، ولا نقارن حياتنا بحياة الآخرين، فالحياة لاتصفوا لأحد.
أخيراً تعجبني معايشة الناس البسيطة، الذين لا يفتخرون بشىءٍ في هذه الحياة سوى أخلاقهم، لا يهمهم في هذه الدنيا سوى الابتسامة والتواضع، فليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، وشكراً لمن قدَر أوضاعنا قبل أن نشرحها ولمن أحبنا رغم عيوبنا.