تصوَّر لو أن في إمكانك أن تختزن مشاعرك لفترة طويلة.. أي أن تختزنها في الذاكرة تماماً مثل الأفكار، وتستدعي هذه المشاعر عند الحاجة إليها، فلو اختزنت – مثلاً – إحساساً فرحاً في ذاكرتك فإنك تستطيع استدعاءه إذا اجتاحك إحساس بالحزن أو الكآبة أو الغم.. حاولت مرة أن اختزن إحساساً جميلاً، وبذلت جهداً في السيطرة عليه حتى لا يفلت مني، وقررت أن أكون سعيداً طالما أن هذا الفرح المختزن قابل للاستدعاء في أي وقت، وفي غمرة هذه الأفكار العجيبة جاءني شخص ما بخبر مزعج و( محزن ).. ومن ثم فشلت كل محاولتي في استدعاء الإحساس بالسعادة أو الاحتفاظ به -على الأقل- في مواجهة هذا الخبر المفجع، بل وتلاشت مشاعر السعادة وكأنما نسخت نسخاً، أو انتزعت انتزاعاً.. وفيما يشبه (الخطرفة) ساءلت نفسي لماذا لا تختزن المشاعر والأحاسيس بقوتها وثرائها طوال الوقت؟ وربما طوال رحلة العمر؟ وأن تستمر متدفقة نابضة، لا أن تصبح مجرد ذكرى، سعيدة كانت أو تعسة؟؟. وقد تكون الإجابة: المشاعر تتخذ أشكالاً متضادة، فلا يمكن أن يجتمع الحزن مع السعادة، والأسى مع الفرح، والحب مع الكره في جسد واحد، أما الأفكار فإنها تختزن على الرغم من تنافرها وتناقضها، ولذلك فهي تختمر أو تتلاقح مع بعضها لتولد أفكاراً جديدة، ومن الأضداد قد يخرج الإبداع.. فالذاكرة هي مستودع الأفكار، وهي تختلف من شخص إلى آخر، وبعضها يشابه (الكمبيوتر) الذي يختزن ملايين المعلومات وتقدم لصاحبها تفصيلات دقيقة فور طلبها. وأصحاب الذاكرة القوية هم الذين يصنعون الحياة، ويصوغون التاريخ، ولكن أين يمكن اختزان المشاعر؟ ربما في القلب لأنه يرتبط بالخلجات! وتعلو النبضات، وتسرع في حالات كثيرة: عند الحب، وعند الخوف، وفي الامتحانات والمقابلات الشخصية، وعند سماع أخبار سعيدة.. والمشاعر إذا اختُزنت فهي تفضح صاحبها رغم أنفه و”مداراة” الشعور لا تعمر طويلاً.. فلو تمكن “المحزون” من كبت مشاعره لأنهك جسده؛ لأنه لا يقوى على زخمها، ولتبيَّن له أن خلايا جلده أرقُّ من أن تحبس تدفق فيض المشاعر..
وكبت الإحساس ـ كما يقول علماء النفس ـ يؤدي إلى الخلل وربما إلى مستشفى الأمراض النفسية، ومن الواضح أن الزفرات والأنات والآهات ما هي إلا وسائل مستترة للتعبير عن استحالة اختزان المشاعر.
وعلى العموم فإن اختزان الأفكار ـ على اختلافها ـ يولّد مفكراً أو مبدعاً، واختزان المشاعر يفرز معاناة قد تولّد شاعراً أو قاصاً أو مجنوناً.. وإذا عبَّرت الأحاسيس المختزنة عن نفسها بصورة جماعية وعلنية؛ فإن الأمر يُصبح فوضى مدمرة، غلياناً!! سمّه ما شئت!!
حاول مثلي أن تختزن فرحاً مع ترح، خوفاً مع شجاعة، تردُّدًا مع جرأة، أمل مع إحباط، حُب مع كُره – (لكن حاذر جدِّياً من اختزان مشاعرك حول فترة حُكم السودان الممتدة من ٢٠١٨ إلى ٢٠٢٢م) – لا شك أن هذه النقائض التي تختزنها ستتصارع في داخلك، وقد تدفعك إلى العبقرية أو إلى الجنون.. فإذا كنت بلا ذاكرة فأنت بلا معرفة.. وحين تكون بلا مشاعر فأنت جلمود، ميّت يحمل جثته ويعيش بين الناس.
كُتبت هذه الخاطرة وأودعتها إحدى المجموعات منذ مدة، لكن ربما تكشف لنا التقنية المعاصرة أن اختزان المشاعر وحشدها في مكان آمن داخل ذاكرة الكمبيوتر ممكن جدًّا، ولا يستبعد الاحتفاظ بالأجساد نفسها بجميع جوارحها، وإعادتها إلى سابق عهدها – دون روح بالطبع – فور النقر على الكيبورد لاستدعائها، تصور أنك قادر على إيداع ابنك أو ابنتك على قرص أو (سي دي) مثل أي مقطوعة موسيقية لسنوات طويله، وبمجرد تشغيل الجهاز بعد عشر سنوات مثلاً يعود إليك المختزن – ابناً أو بنت – في سنِّه ذاتها التي حُفِظ بها دون تغيرات فسيولوجية طرأت عليه وأدخلته مرحلة الهرم أو شيخوخة… ولم لا؟ فالكهل الآن يمكنه استعادة شبابه عبر هزيمة البياض بالأصباغ والحلاقة، إذن فالأمر ممكن… والاستدعاء ممكن، واستعادة المشاعر أقرب احتمالا في هذا العصر التقني الإعجازي المذهل.
هذهِ كلمات غير طبيعية انتقلت إلى دفتري في لحظة هذيان أملته حالة ذهنية سقيمة، لكنها قد تتحول إلى طبيعية بعد أن تنحرف الأرض عن محورها!! اللهم نعوذ بك من خرف مبكر، ومن ردَّة بعد شدَّة، ومن ضعفٍ بعد قوة.