تخرَّج في كلية الهندسة بدرجة امتياز، ونجح مهنيًّا على مستوى الممارسة، حتى أصبح اسمه على أفواه كل الناس، ذاع صيته مهندسًا بارعًا وموفقًا ذي خيال خصب، وأنامل مبدعة، وأفكار متجدِّدة على الدوام، أشارت إليه الأصابع بالإعجاب والتقدير..
شبَّ ابنه على نهجه مفتونًا بدراسة الهندسة، وكان يرى في أبيه مثالاً نادرًا على النجاح والتوفيق، تطلَّع إلى الشهرة، تاقت نفسه إلى أن يكون مهندسًا لامعًا تتخطفه بيوتات الخبرة، ولكن..! ولكن ماذا؟ عزَّ على الأب أن يتخرج الابن مهندسًا، لا يريده مقتفيًا لأثره يستتبع خطاه، يريده (نطاسًا) جرَّاحًا ماهرًا شهيرًا.
ازداد ضغط الأب، تململ الابن، حاول التمرد على إملاءات أبيه، ناقشه على استحياء، اعترض بأدب جم، تبرَّم، تذمَّر، غير أن كل هذا لم يُفلح في إقناع والده؛ فاستسلم أخيراً لإرادته، وأذعن راغمًا لـ (ديكتاتوريته).. التحق بكلية الطب وتخرج بامتياز؛ غير أنه أقسم ألاَّ يمارس الطب مهنةً على الإطلاق، وبالفعل شكَّلت له معاهد التدريب على الحاسب متنفسًا وسلوى، فلا يكاد يكمل دورة حتى ينخرط في أخرى، ووجد ملاذًا في مجال الحاسبات والإنترنت، تفوق فيهما، عمل ميدانيًّا في هذا المجال بصمت، أكبَّ على عمله بنفس كسيرة، أحس ـ بعد مدة ـ بأحزانه القديمة تتداعى وتتجدَّد، وتحوَّلت علاقته مع شاشات الحواسيب وكأنها علاقة إكراه، أو حبِّ ميِّت؛ فعزل نفسه وانكفأ عليها يجترُّ طموحات موؤودة.. حقيقة لم يَعُقّ الابن أباه؛ بل أعاقه أبوه، فأصبح كومة محطَّمة، كائنًا معوقًا أكاديميًّا ونفسيًّا!!
الابن أيها الأب ليس خارطة إسكانية أو رسمًا بيانيًا تُشكِّله كيف شئت، ولا مختبرًا؛ إن لم يكن (حيوان تجارب) تُجري عليه تجاربك التي تحاول من خلالها صناعة مستقبله العلمي والعملي!! فهو شخصية مستقلة، بعقل وتفكير، ويملك استعدادًا للاستئناس بآراء والديه، والاستنارة بطروحاتهما دون أن يمليا عليه ما يريدان، إنه على استعداد لـ (الطاعة) إذا اقتنع بما يُطرح عليه، ولـ (النفور) إذا أُكره على شيء يُصادم رغباته.
لقد تغيَّرت ظروف الحياة مع تداعيات علوم الاتصال وتدفق المعلومات، واتسعت مدارك الأبناء وتعمَّقت مفاهيمهم حول محيطهم والمجتمع من حولهم، وأَسْهَمَ هذا المحيط في صياغة عقولهم والانتقال بها إلى مستوى النضج المبكر، ولذا على الأب إدراك أن ابنه ليس ملكية خاصة يصوغه كيف يشاء، ولا كراسة يدوِّن عليها مذكراته وآماله وأحلامه في الحياة، إذ لا بد له من إشراك المجتمع في هذه التنشئة بما يتوافق مع إمكانات ابنه وميوله واستعداده النفسي والعقلي.
أيها الآباء.. الوعي بحاجات الابن أمر في غاية الأهمية، والـ(لاءات) التي تصدر عنه؛ ليست في كل الأحوال أمرًا سالبًا يستوجب العقاب، وإنما يجب التعامل معها بعمق وبأناة ورويَّة، ومحاولة النفاذ إلى أعماقها لمعرفة أسبابها، ثم علاجها دون إكراه أو تعنُّت، وصولاً إلى بدائلها التي ترضي طرفي المعادلة: الوالد والولد.
حوار الأبناء ومناقشتهم وسيلة مثلى في تنشئتهم على النهج القويم، وفي بنائهم العقلي والنفسي. وللآباء أن يسترشدوا بالإشارات التربوية العظيمة الواردة في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة؛ ففيهما ما يُغني عن سياسة (الملكية الخاصة)؛ أو الاستنساخ الذي يُحوِّل الابن إلى صورة طبق الأصل، أو مهتزة ومشوشة وغائمة الظلال.