الثورة ومعاش الناس

عبد الرحمن أبو القاسم محمد

شارك الخبر

بدأت الثورة أو الانتفاضة الديسمبرية، مَطلبية تُطالب بتحسين الأوضاع المعيشية، وترقية الخدمات، ومُحاربة الغلاء، والاهتمام بمعاش الناس, ولكن بعد استنفاد كل الحُلُول التي لم تُجدِ نفعاً، أدْرك مُعظم الناس أنّ تكرار الفشل لا بُدّ أن يتوقّف، ولا سَيما أنّ النّظام الذي كَانَ حَاكماً لثلاثة عُقُودٍ فَشَلَ في إدارة الدُّولة ومن ثُمّ قفزت المطالب إلى إسقاط النظام، وتحوّلت المَطالب إلى سياسية، ذلك لأنّ الاقتصاد المعافى لا يتم إلا في مناخٍ سياسي سليمٍ يتّسم بالتّوافُق والشفافية والتّشاركية والتّعدُّدية الحزبية وليست في نظام حزبٍ واحدٍ يُهيمن على كل مُستويات الحكم.
المُواطن العادي مطلبه هو العيش الكريم والرفاهية، وتَوفُّر الخدمات الضرورية التي هي من واجب الحكومات، ولا ينبغي أن تَمتن الحكومات أو الأنظمة على المُواطن أثناء القيام بمهامها. فهذه الخدمات من صحةٍ وتعليمٍ وعيشٍ كريمٍ وعدالةٍ من الحُقُوق ومن واجب الحكومة أن تقوم بها دُون امتنانٍ، وإن لم تفعل يُعد هذا أحد مَلامِــح الفَشَــل.
بناءً على ما ذُكر، ينبغي أن يكون معاش الناس من الأولويات من خلال تفادي ومُعالجة كل الأخطاء التي أوصلتنا إلى هذه الحالة الاقتصادية. من تحديات الفترة الماضية وجود دولة ظل (دولة مُوازية)، لها اقتصادياتها واستثماراتها وميزانيتها وكلّها من ثدي الدولة الرسمية، إضافةً إلى موقف الحزب الذي كان حاكماً في بعض دول الإقليم والمُجتمع الدولي مما جعل السودان في شبه عُزلة إقليمية ودولية رغم وجود بعض المسارات إقليمياً ودولياً فيما يلي بعض القضايا. هذه التّحديات لها أثرٌ مُباشرٌ على الاقتصاد الكلي ومعاش الناس, أما المُشكلة الداخلية تكمن في الإنتاج والفشل في استغلال الموارد المُتاحة والتّخبُّط والفساد الإداري واستغلال دولة الظل للدولة الرسمية وظُهُور تَحَالُف بين السُّلطة والمال وظُهُور بما يُعرف بـ”القطط السمان”.
المُعالجة العَاجِلَة لمعاش الناس تَكمن في تَحويل كل مُوارد دولة الظل (المال المنهوب) إلى الدولة الرسمية، وأن تكون وزارة المالية هي الرقيبة على كل الأنشطة الاستثمارية، وخُصُوصاً الشراكة بين القطاعيْن الخاص والعام, إضافةً إلى تَقنين وهَيكلة قِطَاع الصّادرات وضَمان انسياب حَصَائلها واسترجاع حصائل الصّادر في الفترة المَاضية لتعود إلى خزانة البنك المركزي, فيما يلي انسياب وتوفُّر السِّلع الاستراتيجية كالقمح والوقود لا بُدّ من مُعالجة كل التّحديات التي كانت تقف في وجه توطين زراعة القمح وتشجيعها (من ري وتقاوي وتمويل وسعر تركيز مُجزٍ وقيام البنك الزراعي بدوره الرسالي وخروجه من الأهداف الربحية). فيما يتعلّق بالوقود, في الوقت الراهن لا بُدّ من عودة المال المنهوب والاستعانة بجُزءٍ منه في استيراد المُشتقات النفطية، ولا سيما أنُنا مُقبلون على مُوسمٍ زراعي (سيكون هذا أول اختبار للثورة وحكومة التغيير), أما جُزءٌ من المال المنهوب ينبغي أن يُوجّه نحو الإنتاج النفطي وهيكلة قطاع التعدين والصناعات التّحويلية وإحلال الواردات وإعادة تشغيل كل ماكينات المصانع المُتوقِّفة والمُقترحة واستيراد مُدخلات الإنتاج والأصول الرأسمالية من آلات ومُعدّات.
فالعملية الإنتاجية لا تتم فقط بوضع الخُطط والبرنامج, لا بُدّ من مُعالجة كل تحديات الاستثمار بعدم عرقلة الاستثمار بالقوانين الجبائية والبيروقراطية المُنفرة, ولا بُدّ من توفير النقد اللازم لاستيراد الأصول الرأسمالية لإنتاج سلعٍ تصديريةٍ، وسلعٍ يُمكن أن تحل محل السِّلع المُستوردة. السِّياسة الضريبية يمكن أن تكون مُحفِّزة للإنتاج بحيث يتم تَخفيض الضرائب كلما زاد الإنتاج لأيِّ مُنتجٍ ينتج سلعاً تصديرية، وسلعاً يُمكن أن تحل محل سلعٍ واردة, وبالمثل السياسة الجمركية يُمكن أن تُحفِّز الإنتاج من خلال التّخفيض أو الإعفاء الجمركي للأصول الرأسمالية والسلع المُستخدمة كمواد خام لصناعة سلع تصديرية، إضافة إلى إزالة الفجوة الكبيرة بين تكلفة المُنتج وسعر بيعه لكي لا يزداد المُستغلون، المُحتكرون، المُضاربون غنىً على كاهل المُواطن.
الإنتاج بالإضافة إلى مساهمته في تحسين وضع الميزان التجاري (فيضه وتوازنه) فإنّه يؤدي إلى خلق وظائف حقيقية لعددٍ كبيرٍ من المُواطنين واستغلال الموارد وخلق الوفرة للسلع الاستهلاكية. من ناحية أخرى، زيادة حجم الصادرات يُعزِّز ويُحسِّن من قيمة العُملة الوطنية مُقابل الأجنبية.
تحسين معاش الناس يكمن في الاستغلال الأمثل للموارد المُتاحة ووجود إرادة سياسية قادرة على صنع التغيير للاقتصاد من خلال رؤى اقتصادية تتّسم بالنظرة المُتعمِّقة والبحث العلمي والتخصُّصية. ولذلك نقترح وجود مجلس اقتصادي قومي يضم الخُبراء الاقتصاديين والمراكز البحثية ليقود دَفّة الاقتصاد ومَعَاش الناس ويُفجِّر الطاقات الشبابية ويُوجِّهها للإنتاج عبر إنشاء اقتصاديات ضخمة تُموّل من مُؤسّسات التمويل المحلية والخارجية ورأس المال الوطني، ولا بُدّ من توزيع الاستثمارات وخُصُوصاً الصناعات التحويلية على كل أنحاء القطر، كلِّ منطقة حسب مواردها المُتوفِّرة مع إنشاء مناطق صناعية ضَخمة في المُستقبل القريب في الأقاليم مع توفُّر مُقوِّمات الصناعة من طاقةٍ ونقلٍ وتدريبٍ للكادر البشري ومُراعاة التلوُّث البيئي وضمان استمرارية النّشاط الاقتصادي من خلال وجود أسواقٍ عالميّةٍ ومحليّةٍ وإقليميّةٍ للمُنتجات واستمرار الإنتاج بتوفُّر كل مُقوِّمات الصناعة، هذا فَضْلاً عن الاهتمام بالزراعة بشقيها لأنّها عماد الاقتصاد وخراجها. مواد خام في انتظار خلق قيمة مُضافة عبر ماكينات المصانع. أمّا أزمة السُّيولة ينبغي أن تُعالج بالاستبدال العاجل للعُملة وتفعيل عملية التبادُل الإلكتروني, فالطباعة تُعد تمويلاً بالعجز يؤدي إلى آثار تضخمية مُباشرة. فبالإنتاج تكتمل الثورة وتُؤتى أكلها، حيث الوفرة والرخاء والأمن الغذائي في ظل مناخٍ يتّسم بالشفافية والأمن والعدالة والحُرية.
خارج السور:
ليس هنالك توافُقٌ كاملٌ وإجماعٌ كاملٌ فيما يتعلّق بالفترة الانتقالية، ولذلك لا بُدّ من تقديم تنازُلات لعُبُور تلك المرحلة المَفصلية طالما الحِصّة وطن, والوطن يعلو فوق كل الخلافات ومِن أجله يتم التّوافُق, أمّا مُقترح أربع سنوات لحُكومة من غير تفويضٍ كاملٍ من الشعب لا يتّسق مع مبدأ الحُرية والعَدَالة.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.