د. ناجي مصطفى بدوي (*)

سلسلة: قراءات في الواقع السِّياسي السُّوداني (6)مُشكلتنا أعظم من تفاصيل فترة انتقالية وانتخابات قادمة1.

شارك الخبر

من أحزن القصص السِّياسيَّة في التّاريخ الحديث هي قصّة التداوُل السلمي للسلطة في السودان، وسبب ذلك الحُزن هو أنّها قصةٌ لم تحدث بعد!، فبعد أكثر من ستين سنة من الاستقلال مازلنا في السودان نتلفت هنا وهناك عسى أن نجد منجداً يهدينا إلى طريق التّداوُل السَّلمي للسُّلطة.
بدأت مسيرة السياسة في تاريخ السودان الحديث بحكم الزعيم إسماعيل الأزهري الذي سقط وسقطت حكومته بعد سبعة أشهر فقط من الاستقلال وبطريقة غير سلميّة، ثُمّ تكوّنت حكومة عبد الله بك خليل الذي سقطت حكومته أيضاً بانقلابٍ عسكري مُدبّر في نوفمبر العام 1958م، وبهذا انتهت حقبة الدِّيمقراطيَّة الأولى دُون أن يولد في السودان ما يُعرف بالتّداوُل السَّلمي للسُّلطة.
جاءت حكومة الرئيس عبود العسكريّة واستمرت ست سنوات دُون أن تُتداول السُّلطة سلميّاً حتى أُطيح بها في ثورة شعبية أكتوبر عام 1964م، وقامت على أعقابها الديمقراطيّة الثانية والتي لم تلبث أن أطَاحت بِها ثَورة انقلابيّة في مايو 1969 دُون أن يَرَى السُّودانيون ما يُسمى بالتّداوُل السَّلمي للسُّلطة أيضاً.
امتدّ حكم الرئيس جعفر نميري لست عشرة سنة دُون تداوُل سلمي للسُّلطة حتى أُطيح به في ثورة شعبية تلاها انقلابٌ في العام 1985م، وبدأت الديمقراطيّة الثالثة لفترة واحدة لم تكتمل حتّى أطاح بها انقلاب عسكري في يونيو 1989م، واستمرّ هذا الحكم العسكري لمدة ثلاثين سنة وهي أطول فترةٍ يقضيها رئيسٌ واحدٌ في السُّلطة بالسودان وربما في العالم حتى أطاح به انقلاب ثوري في العام الجاري!! وما زلنا نسمع بالتّداوُل السَّلمي للسُّلطة دُون أن نراه.
بعد هذا السَّرد التّاريخي الحَزين، يثور سُؤالٌ كَبيرٌ هل فكرة التّداوُل السَّلمي للسُّلطة مُمكنة ومُتاحة في السُّودان؟ أم أنّها أحلام الفترات الانتقاليّة والتي لا تلبث أن تتبدّد مع بداية بروز حكم سلطوي جديد؟ ربما لسنا بحاجةٍ لذكاءٍ خارقٍ لنفهم أنّ المنح لا تولد هكذا، وأنّه لا يتم إهداؤها بالمَجّان، وأنّ الحُريّة لا تُوزّع في حفلٍ خيري على الشعوب النائمة، وأنّ التمنِّي لا يصنع نتيجة.
وبينما أرى الجميع اليوم غارقاً في تفاصيل الحكومة الانتقاليّة وهياكلها ونسب التمثيل في هذه الهياكل، وفي صراع اليَمين واليَسار والشريعة والعلمانيّة، لا أجد من يتحدّث عن الأُسس العلميّة والوَاقعيّة لبناء دَولةٍ جَديدةٍ وعَهدٍ مُختلفٍ مُؤسّسٍ على مبادئ السَّلامة في المُمارسة والرشد والعدل والمُساواة، ولا أجد من يتحدث عن قنوات الانتقال ووسائله، أو من يتحدث عن المعالجات البشريّة المُهمّة في الإطار البشري المنوط به صيانة المُستقبل من الانحراف!!؟.
فإذا كانت الأحزاب هي الأحزاب، والأفكار هي الأفكار، والشعب هو الشعب، والوسائل هي الوسائل، ومدى التفكير وأفقه هو هو، بل والأشخاص هُم الأشخاص، فما الضمان بأنّنا لسنا سطراً جديداً في تلك القصة التاريخيّة الحزينة التي سردتُها في بداية هذا المقال؟!
أقول لله وللتاريخ بأنّ تَحوُّلاتٍ كبيرة لا بُدّ أن تحدث اليوم في السودان، إن كُنّا بصدقٍ نُريد بناءَ وطن القانون والتنمية والازدهار والحُريّة، أمّا إن كُنّا نُريد المُضي على ذات الطريق غير السَّلمي فالأمر أيسر مِمّا يظنه كَثيرٌ من الناس اليوم وربما لا يستحق كلّ هذا العناء السياسي المبذول اليوم لترتيب الفترة الانتقاليّة من أجل تهيئة الجو لإقامة الانتخابات بعد إقصاء فلول النظام السابق من المشهد السياسي، وربما الحياتي ومحاكمتهم، لأنّ كلّ هذا قد تمّ تجريبه من قبل، دُون أن يحدث تغييرٌ في اتّجاه السِّياسة بالسُّودان، ولئن كان السِّياسيون اليوم يتحدّثون عن إعادة هيكلة الدولة لإبعاد فلول النظام السّابق فيما يُسمى بالدولة العميقة، فإنّ تطهيراً من قبل قد وقع عبر شنّ الحرب بالطائرات الحربية على فلول الديمقراطيّة الثانية واستحرّ القتل في الناس بالآلاف، ثمّ لم يمنعنا ذلك من أن نمضي قُدُماً في ذات الطريق السُّلطوي المليء بالانتهازيّة والثورات والانقلابات والانهيارات المُتعدِّدة. كما أنّ التّصفيات الهيكليّة التي أعقبت انقلاب 89م لَم تَمنع المُستهدفين بها من البُرُوز مَرّةً أُخرى ومن مُمارسة السِّياسة، بل وتصدرها.
إنّنا بحاجةٍ لعقليّةٍ جديدةٍ وأفقٍ جديدٍ للتفكير المُنطلق والمُتوجّه نحو أصل المعضلة وأُسّها وأساسها، فقد ظللنا لأكثر من ستين سنة نُعالج مَظاهر المُشكلة لا أصلها، ونُمارس الانتقام والتّشفي وشخصنة الثورات وشيطنة الآخر دُون أن يُقدِّم لنا هذا شيئاً مُفيداً للوطن وللشعب وقد آن الأوان لنستيقظ من سباتنا العميق هذا.
إنّ اللهَ والتاريخُ شاهدٌ لم يجعل أبداً لأمّة متفرقة مجداً ولا بقاءً ولا سمعةً، ولطالما مثّلت الفرقة والتنازُع والاحتراب في التاريخ أعظم مادةٍ لفساد حال الأمم، وقد قرّر القرآن الكريم هذا في قوله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، هذه هي معضلتنا القائمة، ليست مُشكلتنا فساد الحكومات ولا انهيار الاقتصاد ولا الثورات والانقلابات والتّصفيات والإقصاء، بل كل هذه المُشكلات هي مَظاهر اختلافنا وتنازُعنا الظاهر البيِّن، ولو كُنّا نعمل معاً لما انهار الاقتصاد ولما حلّت بنا النكبات والكوارث.
إنّها الحقيقة الماثلة التي لا يصحّ منا نكرانها والتخفّي منها، لقد تحوّل التّدافُع الطبيعي بين مُكوِّناتنا السِّياسيَّة والذي يؤدي إلى الازدهار عبر الرّأي والرّأي الآخر، وبَين السّعي والسّعي الآخر، وبين الحُكم العَاقل والمُعارضة الرّاشدة، تَحوّل إلى كَراهيّةٍ وإقصاءٍ وتَصفيةٍ وتَصنيفٍ واتّهامٍ وشيطنةٍ، وتحوّل خطاب النقد العاقل إلى خطاب يلفق الأكاذيب وينشر الشائعات ويلصق التُّهم، وتحوّل الوطن والمُواطن من كونهما هدفاً مُشتركاً للبناء إلى ساحة وأداة لتصفية النزاعات، فدمّرنا الوطن والمُواطن، وهذا حال لا تستقيم معه الممارسة السياسيّة بحالٍ. وستون سنة من تاريخنا خيرُ شاهدٍ على هذا.
لن نبلغ الرشد السِّياسي ونُحقِّق التّداوُل السَّلمي للسُّلطة ما لم نَرتقِ فوق ذواتنا وخلافاتنا ونلتقي على قاسم الوطن والأخلاق والشرف والفضيلة، كيف يُمكن لنا تحقيق ذلك؟ أتناول هذا في المقال المُقبل بإذن الله تعالى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.