د. ناجي مصطفى بدوي(*)

سلسلة: قراءات في الواقع السِّياسي السُّوداني (8)
الديمُقراطيّة حُلمٌ أم حَرامٌ؟!

شارك الخبر

أتجوّل كل يومٍ في مواقع الحراك المُتعدِّدة في ولاية الخرطوم أتفقّد المسارات السِّياسيَّة للحراك السُّوداني المُعاصر ومُتغيِّرات الأرض، وأرصد انفعالات الشباب والناس عُمُوماً، وأرصد التّغيّرات الفكريّة والسُّلوكيّة التي تحدث هُنا وهُناك، وبينما كان هذا التِّجوال مُنحصراً على منطقة القيادة العامة حيث الاعتصام وبعض المواقع الأخرى، عرّجت البارحة على الشارع قِبالة القصر الجمهوري، حيث كان مُستقر مسيرة تيّار نصرة الشريعة ودولة القانون وَوَقَعت عَيني أوّل مَا وَقعت على لافتة يَحملها بعض الشّباب وقد كُتب عليها عبارات مَفَادها بأنّ الديمقراطيّة والشرع الإسلامي ضِدّان لا يَلتقيان، اكتفيت بهذه المُلاحظة الكَافية لملء ليلةٍ كاملةٍ بالتفكير وعدت أدراجي إلى أوراقي أحرِّر عليها للقارئ الكريم حول هذه المُـلاحظة.
وأذكر أنّه قد دَارَ قبل سَنواتٍ حِوارٌ بيني وبين عددٍ من الشباب المُنتمين للتيارات الجِهاديّة التي يُسمِّيها البعض “بالتكفيريّة” حول قضايا الحاكميّة و”كفر التشريع” ولأنّ الله قد أنعم عليّ بنعمة الكتابة والتوثيق، فقد حرّرت كلّ النقاش الذي دَارَ بيننا وقد بلغ مئات الصفحات وعسى أن يرى النور مطبوعاً في وقتٍ قريبٍ بإذن الله تعالى.
وبينما تمثّل الديمقراطيّة حُلُماً سِيَاسِيّاً للأحزاب والشُّعوب المُسلمة، تمثل الدِّيمقراطيّة نفسها كفراً بواحاً عند تيارٍ كَبيرٍ من الشّباب والجماعات الإسلاميّة التي تَرَى في الديمقراطيّة تَحكيماً للشعب فيما شأنه أن يكون لله تعالى، مُستدلين بجملة من النصوص منها قوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ).
ولأنّ الديمقراطيّة بمعناها السِّياسي المُجَرّد غير مُتحقِّقة في ديار المُسلمين، فإنّي أرى هذا النقاش في هذا الموضوع نِقاشاً من نَوع الترف الفكري ليس إلاّ، فما هي جدوى نقاش قضيّة فلسفيّة لا وجود لها في الواقع المعاش ورُبما ولا في الواقع القريب. كَمَا أنّ الديمقراطيّة بمعناها السِّياسي الحرفي وهو حُكم الشعب لنفسه غير مُتحقِّقة حتى في الدول الغربيّة، حيث يقوم التمثيل الشعبي مقام تمثيل الشعب، بمعنى أنّ الحكم في الديمقراطيّة حتى في بلاد الغرب قد آل إلى مُجرّد حكم الأغلبية وليس حكم كلّ الشّعب، وهذه الأكثريّة تمثيليّة وليست أغلبية، بمعنى أنّ آليات الديمقراطيّة هي آليات تمثيل نسبي وليس آليات وُجُود حَقيقي للشعب في الحكم بنفسه، إذ هذا مُتعذِّرٌ جداً.
الجَـديد عندنا في الشّـرق الإسـلامي هو أنّنا نُناقش قضيّة الدِّيمقراطيّة من مَنظـورٍ دِيني وهذا مَقبولٌ بل ومَطلوبٌ، ولكنّ الإشكال هو أنّنا لا نُناقشها في بُعدها السِّياسي الذي لا يُمكن فهم الحكم الديني من غير النقاش فيه.
ولتفصيل هذا الجُزء المُهم أقول إنّ الديمقراطيّة كنظريّةٍ هي وسيلة وليست هَدفاً وغَايةً، بل الغاية والهَدف هو إقَامة الحُكم على نظامٍ عادلٍ وأساسٍ حُرٍّ ونزيهٍ، وهذا الهدف مَطلوبٌ في الإسلام كشريعة قرآنية حيث يقول تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وقال تعالى (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ…) فالعدل هو أساس الملك، هذه قضيّة أولى مُهمّة.
القضيّة الثانية هي أنّ الإسلام لا يقيّد في الوسائل مثل تقييده في الغايات والأهداف، فالوسائل أوسع من حيث عددها ومن حيث إطلاق الشرع للمسلم أن يبتكر منها ما يُناسب عَصره، مثالُ ذلك أنّ الله أمرنا بإعداد القُوة المُستطاعة لردع أعداء الله والوطن والدِّين، ولكنّه لم يُحَدِّد وَسيلةً بعينها، بل تَرَكَ الأمر للمُسلمين في كلّ زمان ليتّخذوا وسائل القُوة المُتاحة والفَاعلة في زمنهم، وتتطوّر هذه الوسائل بتطوُّر آلات الحرب والقتال ونحو ذلك، ولو حَدّدَ الله تعالى الوسيلة كَمَا حَدّدَ الغاية لتجمّد الدين وتجمّدت معه الحَياة، وهذا ما يَحدث اليوم عند بعض المُسلمين بسبب إصرارهم على الوقوف عند الوسائل التي استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو السّلف لتحقيق الأهداف والغَايات الشّرعيّة.
عوداً على الديمقراطيّة، وقد قدّمت الحديث بأنّها وسيلةٌ وليست غايةً، فهي أداةٌ لبلوغ الرشد في تأسيس نظام الحكم، وعليه فالنقاش حولها هو نقاش الوسائل وليس نقاش الغايات. نقاش الغايات هو في أصْل المَشروعيّة، أمّا نقاش الوسائل فهو في مَدَى فاعليّة إفضائها للمَطلُوب وكونها فِعلاً مُبَاحَاً في نَفسِهِ غير ممنوعٍ شرعاً.
وإذا طَبّقنَا هذا على الديمقراطيّة كوسيلة ارتفع النقاش حول كونها لاغية لحاكميّة الله، لأنّ هذا الإلغاء لا تبلغه وسيلة إذا كان الهدف منها هو إثبات طَريقةٍ للحكم ليس إلاّ، أمّا كيف يحكم الحكام بعد ذلك فهو أمرٌ آخر. ثمّ يتقرّر النقاش في أدوات الديمقراطيّة كوسائل سياسيّة ليس إلاّ.
ويبرز الانتخاب في الديمقراطيّة كواحدةٍ من الوسائل التي يذكر المُخالفون بأنّها مُخالفة لشرع الله لأسبابٍ يذكرونها وهي أنّها لم تُعرف من قبل، وأنّها تُكرِّس لحكم الأكثريّة المنبوذ في القرآن الكريم ويستدلون بقوله تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ )، وأنّه يستوي فيها العالم المُطيع والجاهل الفاسق.
والجواب هو أنّ الوسائل في أصلها تكون جديدةً لم تعرف من قبل فلا ضير في جدّة الانتخاب، أمّا الأكثريّة فهي ليست مَنبوذة بإطلاق فالقرآن الكريم يبين أنّ أكثر الناس في الدنيا لا يؤمنون بالله وهذا مشاهد، وهذا لا ينطبق بحالٍ على أكثريّة المؤمنين، بل قد جاءت السنة النبوية بمدح السواد الأعظم من المسلمين وأمرت باتباع رأيهم. وما زَالَ المُسلمون في الفقه في كل زمان ومكان يأنسون لرأي الجمهور وما ذاك إلا تغليباً للكثرة. وأمّا استواء العالم والجاهل فهو استواءٌ فيما هم فيه سواء، إذ الانتخابُ للتّمثيل النِّيابي أو الحكم نوعٌ من أُمُـور العَادَة والعرف التي يَستوي فيها أهل المَعرفة ولا يُؤثر العلم والعبادةُ الزائدتان فيها كثيراً.
القَضيّة الثانية في تَحريم الدِّيمقراطيّة هُو في كَون النّظام البَرلماني يشرع من الأحكام ما يشاء وهذا مخالفٌ لكون الحاكميّة لله، والجواب على هذا من وجوه أولها بأن البرلمان لا يشرع ما يشاء، بل هو يشرّع الأحكام المَصلحيّة المُرتبطة بتسيير شؤون الناس والتي رَبَطَها الشرع بأصل المصلحة والقياس والاجتهاد ومَقاصِد النُّصُوص، وهي أحكامٌ تتغيّر بتغيُّر الأزمان، فقانون المُرور الذي يحرّم قطع الإشارة الحمراء إنّما يصدر في ذلك عن قواعد الشرع الذي أمر بدرء المَفاسد والمُحافظة على النفس، كما أنّ الحكم بقتل مُروِّج المُخدِّرات حكمٌ بمُوجب قاعدة المُحافظة على العقل. أمّا ثوابت الدين كالعُقُوبات القطعيّة المُتّفق عليها والعبادات الواجبة إجماعاً فهذا لا علاقة له بعمل البرلمان في أساسه، والمَساس بهذا النوع من الأحكام خَطأٌ في سُلُوك البَرلمان لا يَنعكس على النظام البرلماني برُمته فيحرّمه.
الديمقراطيّة وَسِيلةٌ لتحقيق العَدل لا أمجِّدها ولا أدعي كمالها، لكنني أقول بأنّها أفضل مُتاحٍ يُمكن استخدامه نظرياً وواقعياً اليوم لتحقيق العدل، ومتى وجدنا وسيلةً أفضل منها صرنا إليها بلا تَردُّدٍ، فالأوجب على الجماعات الإسلاميّة التي تحرّم الديمقراطيّة أن تقدّم لنا فكرة البديل المُمكن، أقول المُمكن وليس فكرة (أهل الحَل والعَقد) التي سَنختلف فيها ألف مَرّةٍ حَول من هُم أهل الحلّ والعقد اليوم في ظِل هذا الاختلاف والشتات العظيم.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.