دكتور/ عبد الرحمن أبو خريس

الوظيفه الدبلوماسية.. سياسات “القحتنة” وضرورات الكفاءة والأهلية

شارك الخبر

يَشهد السُّودان تَحوُّلاً سياسياً كبيراً، فَرَضَ واقعاً سياسياً جديداً تَمَخّض عنه حكومةٌ انتقاليةٌ ذات توجُّهات جديدة كلياً، خَاصّةً في مجال السياسة والعلاقات الخارجية. تعتمد تلك التوجهات الثورية في أساسها على منهج التغيير، التغيير في أنماط التفكير وصياغة السياسات وبناء الاستراتيجيات، التغيير في أدوات التحليل والبناء ووسائل تعزيز العلاقات الخارجية.
إنّ الإصرار على إجراء تلك الأبعاد التغييرية على مسار صياغة وتنفيذ السِّياسة الخارجية في الوقت الراهن، تُعد حاجةً ماسّةً لعظم التهديدات التي تتعرّض لها البلاد، لكن من الصعب مُباشرةً تنفيذها دُون إجراء تَحليل للبيئة الداخلية لمَعرفة البناء الهيكلي العام السائد في وزارة الخارجية، وحجم القُدرات والكفاءات البشرية المُتوفِّرة، والموارد المالية المُخصّصة لإدارة دفّة العمل وتقييم شامل لبرنامج العمل المُتّبع، ومخرجاته على المُستوى الإقليمي والدولي. وهذا يتطلّب وقتاً وجُهداً كَبيرين، عليه فإنّ مهام الحكومات الانتقالية عادةً تكون إشرافية على ما تمّ، ووضع برنامج إسعافي محدود الأهداف يعمل على تحقيق المصالح الوطنية القائمة على مُراعاة طبيعة المُحدِّدات الداخلية لهذه السياسة الخارجية، المُفضية إلى تأمين البلاد والمُحافظة على سلامة أراضيها، ويعمل في اتّساقٍ مع سياسات الحكومة الأُخرى على نقل البلاد إلى مرحلة الانتخابات.
إنّ طبيعة أجندة ومَوضوعات السِّياسة الخارجية تتّسم بالحركية وعدم الثبات، كما أنّ مُلاحقتها لرصد تطوُّراتها وتأثيراتها على البلاد تتطلّب هي الأخرى تواصلاً واستقراراً إدارياً مُتماسكاً. فمُتطلبات الفترة الانتقالية، فيما يتعلّق بعملية مُتابعة ملفات السياسة الخارجية، يجب أن تكون ذات مساراتٍ معروفةٍ وأهدافٍ واضحةٍ، خَاصّةً في ظل عدم الثقة والتشكيك في بعض الكوادر العاملة، كما أنّ عملية إمساك منسوبي القِوى السِّياسيَّة الجديدة “قحت” بقيادة مُؤسّسات السِّياسة الخارجيّة، والإشراف عليها وإدارتها باعتبارها الواجهه الخارجية التي تحمل قيم الثورة، وتحمي تَوجُّهات الحكومة الجديدة في البيئة الخارجية أمرٌ حيويٌّ، لكن مع أهمية مُراعاة مُكوِّنات البيئة الداخلية الثقافية والحضارية، كَمَا هُو مَسلكٌ وتَدبيرٌ طَبيعيٌّ مُتّخذٌ به في كَافّة الأنظمة السياسية المُنتصرة، خَاصّةً عقب الانتصار الانتخابي أو التغيير الثوري.
إلا أنّ تبني عمليات “القحتنة” لوظائف وزارة الخارجية بالشكل المُتعجِّل والاستغناء مُؤقّتاً عن خدمات بعض الكوادر الوطنية المَوجودة داخل الوزارة بحججٍ مُختلفةٍ، سوف يحدث نقصاً في المعلومات وتراجُعاً في القدرات الاتّصالية، ويُمكن تَشبيه تَداعيات هذه العملية على السِّياسة الخَارجية بالتّداعيات السَّلبية على الأمن القومي السوداني جَرّاء حَل جِهاز أمن الدُّولة لنظام مايو 1969، علماً بأنّ العمل الدبلوماسي لا يعتمد فقط على الطابع الرسمي، وإنّما يتأثّر بعامل الشخصية الدبلوماسية وحَجم عِلاقاتها، ويَرتبط بنمط تفاعُلاتها، فعمليات “القحتنة” يجب أن تُراعي لتلك الأبعاد لما فيها من مصلحةٍ حيويةٍ للبلاد. فطبيعة الوظيفة الدبلوماسية وحساسيتها تستدعي المَوضوعية والتّوازُن بين النظرة “القحتية” التنظيمية والنظرة الوطنية لإجراء تلك العملية، حيث يُمكن بسببها تفقد الحكومة الانتقالية فُرصاً لا يُمكن تَعويضها في إطار التّعامل الدولي، أو ربما تُعرُّضها لحرجٍ أو تهديدٍ تفوق قُدرتها على مُعالجة وتدارُك آثَـاره.
إنّ استراتيجيات “التمكين” السابقة و”القحتنة” الحالية في مجال العمل الدبلوماسي يجب أن تَعتمد على خطة مُحكمة وحذره بالقدر الذي يُؤمن المَصالح الوطنية، ومُراعاتها للأبعاد الوطنية القحة في الاختيار لشغل هذه الوظائف، فأهمية إدراك طبيعة الوظيفة الدبلوماسية ومُتطلباتها، ومُحدِّدات البيئتين الداخلية والخارجية التي تعمل فيها، يُعد أمراً غاية الأهمية، حيث أنّ سياسات “التّمكين” التي انتهجتها حكومة الإنقاذ والتي أسفرت عَلى تَغطية وشَغل مُعظم الوظائف بمَنسوبيها دُون مُراعاة للكفاءة والأهلية والاحتياج الضروري والفعلي للوزارة – ومع ضعف التدريب الداخلي المُنتظم لهذا الكادر التّنظيمي المُستوعب – قَادَت هذه السياسات التنظيمية غير الرشيدة إلى إنتاج سياسة خارجية لم تستطع تحقيق المصالح الكلية، بل تُوِّجت بالحصار الأمريكي، وقَرَارات أُممية ومُطالبات من المحكمة الجنائية الدولية.. كما أنّها أنتجت جهازاً تنفيذاً مُتَرَهِّلاً ومُكبّلاً بالأبعاد التنظيمية لا المهنية، شَّل الأداء الدُّبلوماسي الطَبيعي بالدرجة التي دَفَعت برئاسة الجمهورية آنذاك أن تُحدث تعديلات هيكلية لإدارة الشؤون الخارجية للبلاد بتكليف عوض الجاز بملف العلاقات الصينية والروسية، إضافةً إلى ملفات وقضايا من صميم اختصاصات وزارة الخارجية يتم التّعامُل معها من خلال القصر!! فسياسات “التمكين والقحتنة” هي سياسات تفرضها الطبيعة الثورية، لكن تطبيقها على الوظيفة الدبلوماسية يستدعي تروياً كافياً، لأن التّمسُّك بِهَا دُون اِعتبارٍ للمُتطلبات البنيوية للنظرية الوطنية للسِّياسة الخَارجيّة، والأبعاد المهنيّة المَطلوبة يَنتج آثاراً مُدمِّرة على السياسة الخارجية للفترة الانتقالية شَبيهة بسياسات “التّمكين”، ومُهدِّدات ومخاطر جسيمة على السياسة والعلاقات الخارجية للدولة، يدركها مُوظّفوها ورجال الاستخبارات الخارجية.
لذلك، تُعتبر الوظائف الدبلوماسية والإدارية لوزارة الخارجية من أكثر الوظائف عُرضةً للتغيير في جميع الدول، خَاصّةً بعد حُدُوث التغيير السياسي الكلي أو الجزئي للنظام السياسي باعتبارها وظائف تُعبِّر عن التوجُّه الجديد للحكومة، وملمح لسيادتها. فسياسات “القحتنة” للوظائف الدبلوماسية هي من مطالب أحزاب ومُنظّمات الحرية والتغيير، وأيضاً هي حاجة شرعية وضرورية يفرضها الوضع الراهن، مع ضرورة استلهامها لمُؤشِّرات البرنامج الانتقالي الذي أشارت إليه الوثيقة الدّستورية للالتزام بمعيار الكفاءة والأهلية لشغل تلك الوظائف، إضافة إلى إدراك أهمية صياغة سياسة خارجية تلتزم المُحدِّدات الوطنية، وبرنامج عمل مُحدّد للفترة الانتقالية، لأنّ إدارة الشؤون الخارجية لا تَعتمد فَقط عَلَى التّركيز والاِهتمام بالتّعيين لِشَاغلي الوظائف وإنّما ينسحب المَوضوع إلى طبيعة السياسة المُتّبعة أو المُراد تنفيذها، خاصّةً وأنّ البلاد ما زالت تُحيط بها العديد من المُهدِّدات الخارجية مثل الهجرة غير الشرعية، والجماعات الإرهابية، واستمرار وضعية البلاد في قائمة الإرهاب، وتجديد “حالة الطوارئ الوطنية الأمريكية” “وهو إجراءٌ يتّخذه الرئيس الأمريكي، ليفرض بمُوجبه عُقُوبات استثنائية على أيّة دولة تُهدِّد مصالح الولايات المتّحدة”، ويمثل تهديداً واضحاً ومُستمراً، ويعكس حالة من عدم الثقة وضعف الدعم للوضع الجديد في السودان، “وهو إجراءٌ يَستمر في العادة لسنةٍ واحدةٍ، ويتعيّن تجديده دورياً لتستمر الإجراءات المَفروضة بمُوجبه”. ومُدّة قرار التجديد هذا (عامٌ كاملٌ) حيث يُشكِّل تهديداً لثلث مدة الفترة الانتقالية؟ وتجديد هذا الإجراء لا ينفك عن رغبة ترمب بالاستمرار في وضع السودان في قائمة الإرهاب لمدة عام آخر!! الأمر الذي يعني وضع السودان تحت التهديد والضغط الأمريكي طيلة هذه الفترة، لذلك يُعتبر موضوع شغل الوظائف الدبلوماسية وصياغة السياسة الخارجية، وبرنامجها التشغيلي من أهم الموضوعات حساسيةً وأهميةً للفترة، خَاصّةً وُضُوح نَمط تَوجُّهات السِّياسة الخارجية للحكومة الانتقالية في تعامُلها مع الملفات الإقليمية (العلاقات السعودية والإمارات ومصر ومُشاركة القوات المُسَلّحَة في اليمن)، ودَور القوات الأمنية في مُكافحة قضايا الهجرة غير الشرعية والإرهاب.. جميعها ملفات ذات علاقة بالمصالح الأمريكية ولحلفائها في المنطقة، لذلك يجب مُراجعة شَكل التّوجُّهات الخارجية للحكومة الانتقالية، وضبط الخطاب الإعلامي إزاءها بشكلٍ يُمكِّن الإدارة الأمريكية من التّعامُل الإيجابي الذي يُحَقِّق المصالح الوطنية.
تتزامن مع سياسات “القحتنة” لبعض وظائف الخارجية، أهمية التدريب والتأهيل للكادر الدبلوماسي المُستجد وفي الخدمة، فالمهنية والحرفية لا التنظيمية فقط هما الميزتان المطلوب تَوافرهما في سياسات إعادة الهيكلة لمُؤسّسات الدولة لهذه المرحلة، واتّساقاً مع مبادئ الوثيقة الدستورية، لأنّ البلاد تُعاني من حصارٍ شاملٍ، والكل يتطلّع إلى التحول الديمقراطي، فالجهد الدبلوماسي المُقتدر وذو الخبرة والمعرفة التّامّة بالمُتطلبات الخارجية للفترة الانتقالية سَوف يَكُون ضَرورياً، والمُحدِّد الأساسي في حل أزمات البلاد الخارجية، فالتدريب الدبلوماسي (الداخلي والخارجي لكلٍ مُميّزاته) يُعد موضعاً مُهمّاً ويجب مُراجعة مَواعينه الوطنية بأسرع ما يُمكن، وخَاصّةً “المركز الدبلوماسي”، وتوفيق أوضاعه القانونية والإدارية وشؤون العاملين فيه، علماً بأنّ المركز قد تم ضمّه إلى وزارة الخارجية كلياً بقرار رئاسي منذ 2016 ولم يشهد أيِّ تغييرٍ في أوضاعه طيلة هذه الفترة، كما أنه لم يتمكّن من أداء دوره المركزي بتدريب الدبلوماسيين وذلك لعدة إشكالات إدارية.
إنّ إيلاء المركز القومي للدراسات الدبلوماسية، الاهتمام من قِبل رئاسة الوزارة في هذه الفترة، يُعتبر مَدخلاً أساسياً لإنجاح مَسَار ومخرجات السِّياسة الخارجية، ويُمكنها من أداء دورها ومُساهمتها في تحقيق الانتقال السياسي للفترة الديمقراطية الرابعة في السودان.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.