أحمد إبراهيم أبوشوك

الأستاذ محمد الحسن أحمدون (1935- 2019م)
كان كالغيث أينما حلَّ نفع

شارك الخبر

قرأتُ نبأ وفاة أستاذي الفاضل ومصدر الفضائل ومكارم
الأخلاق(محمد الحسن أحمدون) اليوم الجمعة الموافق
11 نوفمبر 2019م على صفحة تلميذه النجيب المهندس
(سليمان صديق علي)، الذي درس على يديه بمدرسة
كسلا الثانوية، حيث يَعْدَّه خريجوها من الأساتذة
المؤسسين، وذلك بحكم أنه عمل بمدرسة كسلا الثانوية
في الفترة 1965م إلى 1972م؛ قادماً إليها من مدرسة
الخرطوم الثانوية. وبعد قراءة هذا النبأ الحزين انتقلتُ
إلى صفحة خريجي مدرسة كورتي الثانوية، فوجدت أنَّ
الأخ محمد علي كوري قد كان صاحب سبق، حيث
وضع نعياً حزيناً لأستاذه الجليل محمد الحسن أحمدون
على صفحات الموقع. وعندها سألت نفسي: هل اكتفي
بما كتبه الأخ كوري؟ أم أفي قول أمير الشعراء أحمد
شوقي بكتابة سطر فيسيرة معلم كفوء؟ (قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ
التبجيـلا*** كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا*** أعلمتَ
أشرفَ أو أجلَّ من الذي ***يبني وينشئُ أنفـساً
وعقولا).
فالأستاذ أحمدون بالنسبة لمدرسة كورتي
الثانوية للبنين هو المدير الرابع، بعد الأستاذ عبد المنعم
إبراهيم عثمان (المدير المؤسس- 1968- 1970م)،
والأستاذ عبد الله محمد خير (1971- 1978م)، والأستاذ عباس محمد نصر (1978-1980م). وبالنسبة لأبناء دفعتنا (1980-1982م) كان المدير أحمدون شمعة تذوب وتحترق من أجل إسعاد طلابه وزملائه الأساتذة، فلا يغمض له جفنٌ إلا بعد أن يتأكد بأن كل شيء قد وضع في موضعه الصحيح دون إفراط أو تفريط، حلقات الدرس والمذاكرة بدأت في زمانها ومكانها المحددين، وجميع الطلبة حضوراً، والوجبات الغذائية أُعدت بالطريقة التي ينبغي أن تكون عليها، والمناشط الرياضية والمسرحية قد اشترك فيها الجميع كل حسب موهبته.وعندما يزورنا في أوقات المساء في الداخلية أو قاعة الدرس يذكرنا دائماً بعبارته الشهيرة (وعند الصبح يحمد المدلجون السُرى). وأذكر في بداية العام الدراسي لسنة 1981/1982م استدعاني إلى مكتبه بوصفي رئيساً للجنة الطعام آنذاك، وأوضح لي بأن نوعية الخبز (العيش) ستكون دون المستوى المطلوب، وذلك لرداءة نوعية القمح الموجود في السوق، ونبهني بقوله: (إذا كنتم حريصين على الدراسة والتحصيل والجلوس لامتحان الشهادة، فعليكم أن تقبلوا بهذه النوعية من الخبز (العيش)).
كان الأستاذ أحمدون دائماً سعيداً بعطائنا في
التحصيل، ويفاخر بنا المدارس الأخرى، ولكنه حزن
حزناً شديداً عندنا أحرق نفر منا سوق مدينة كورتي عام
1982م، إذ اعتصر قلبه ألماً، وسألنا سؤالاً غاضباً
وحائراً حينذاك: ماذا أنتم فاعلون الآن؟ لقد أحرقتهم
سوق مدينة كورتي بكامل قُواكم العقلية المعتبرة شرعاً،
وبعض الأهالي صرحوا بحرق المدرسة بمَنْ فيها وما
فيها، ومتعهد الموادّ الغذائية وإعاشة الطلبة، العُمدة أحمد
عمر كمبال، قد أحرقتم محلاته التجارية. وبعد هذه
الحيرة، شرع الأستاذ أحمدون في تقليب الأمور ظاهراً
وباطناً، وأخيراً استقر رأيه على إغلاق المدرسة فوراً،
وتوجيه الطلبة بمغادرتها إلى قُراهم التي جاءوا منها؛ لأن إقامتهم في ثكنات المدرسة أضحت أمراً عسيراً. وبعد مغادرة الطلبة قرر معظم أهالي كورتي إغلاق المدرسة بصفة مستدامة أو تحويلها إلى مستشفى، إلا أن صوت العقل كان راجحاً على صوت العاطفة، إذ برزت أسماء لامعة في الأفق: العُمدة أحمد عمر كمبال، والبروفيسور عبد الله أحمد عبد الله (حاكم الإقليم الشمالي آنذاك)، والأستاذ محمد الحسن أحمدون، وفعلاً استطاع هؤلاء أن يتحاوروا مع فضلاء كورتي ويقنعوهم بالتنازل عن حقِّهم المشروع في مقاضاة الطلبة، وإعادة فتح مدرسة كورتي الثانوية للبنين تقديراً لتاريخ مدينتهم العريقة في مجال التعليم، وصوناً لحقوق الطلبة، وعذراً للذنب الذي اقترفوه، بعلَّة أنهم جهلاء لا يحسنون صُنعاً، ولا يجوز معاقبة أبريائهم بجريرة غيرهم.
 
4
وبعد عودتنا إلى المدرسة للجلوس للامتحان
النهائي، طلب منا الأستاذ أحمدون، كتابة اعتذار لأهالي
كورتي، واشترك في كتابة مسودة ذلك الاعتذار الطالب
حسن أحمد شيخنا (طبيب اختصاصي بوزارة الصحة)،
ومحمد محجوب السيد (موظف بديوان الضرائب)،
وطارق علي محمد (موظف ببنك الخرطوم)، وأحمد
إبراهيم أبوشوك (أستاذ تاريخ حديث ومعاصر، بجامعة
قطر). ويقرأ نص ذلك الاعتذار هكذا:
آباؤنا الأعزاء، ورجال العهد والوفاء، والتعمير
والبناء، وذوو الماضي العامر بالبطولات،
والكرم الفياض، الذي تتدفق خيراته على
البشرية جمعاء، ليست قاصرة على حسبٍ أو
نسبٍ، بل على نطاق القطر كله.
أهالي منطقة كورتي
تحية إجلال واحترام
نحن طلبة مدرسة كورتي نقدم إلى سيادتكم هذه
الكلمات المطوقة بالخجل التي يعجز اليراع عن
تسطيرها، والأسطر عن حملها، والخجل
أعجزنا من الامتثال أمام أيديكم، وأريق ماء
الحياء في وجوهنا، وندى جبيننا خجلاً لما فعلته
أيدينا من عظيم ذنبٍ، لم يكن بإرادتنا، ويؤسفنا
أن يأتي هذا الذنب من وسط طلابي، يسعى من
أجل البناء والتعمير، ولكن الجهالة أعمت
عقولنا، وهكذا شاءت الأقدار.
5
ليس كلّ ما يتمنى المرء يدركه **** وتأتي
الرياح بما لا يشتهي السفن
وإننا قد تبحرنا بين قواميس اللغة، وأحرف
بنت عدنان، كي نجد الاعتذار على ذنبنا،
ولكننا قد عجزنا، وحال الخجل دون ذلك. وقد
دفعنا شعور دفين نحو معاملتكم السابقة لنا،
ولكن الجفوة الموجودة حالياً جعلتنا على أحرَّ
من الجمر، والكلمات قاصرة عن الاعتذار إلى
قدركم السامي، ومقامكم الرفيع؛ لكنها في آن
واحدٍ لسان حال يعبَّر عما يجيش بخواطرنا
نحوكم، وثقتنا عالية فيكم، أهلٌ للمعروف،
والمعذرة، والصفح، ونأمل أن تعود الحياة إلى
مجاريها مرة أخرى، تنقشع السحابة العابرة
التي ظللت مجتمعنا.
ونحن إذ نكتب إليكم هذه الأسطر لا ننكر،
بل نقف معتزين بموقفكم البطولي الشجاع تجاه
ذلك الذنب الذي أبكى، ثم أفرح كلّ من شهدته
عينه، أو سمعته أذنه. أبكاهم لما يحمل في
طياته من بشاعة منظرٍ، وكبر مصيبة، وما
 
6
عكسه علينا من سمعةٍ ليست بالمرجوة لنا بين
العامة والخاصّة في تاريخ تعليمنا؛ وأفرحهم
فرحاً ممزوجاً بالاعتزاز والفخر لما ضربتموه
من مثلٍ رائعٍ في الصبر وتحمل المصائب.
(طلبة مدرسة كورتي الثانوية)
وبعد أن قرأ الأستاذ أحمدون الاعتذار وثمن ما جاء
فيه، بدأ يتحسس الظروف الموضوعية المحيطة، وأخيراً نصحنا بتأجيل تسليمه لأهالي كورتي، محتجاً بأنَّ الوقت غير مناسب. ومن ثم ظلَّ ذلك الاعتذار حبيساً مع بعض أوراق احتفظ بها عن تاريخ تلك الفترة، وظلَّ الحال على ما كان عليه مشوباً بالتوجس والحذر إلى أن جلسنا إلى امتحان الشهادة الثانوية، وحلّت الإجازة الصيفية التي أسهمت في تهدئة النفوس، وإزالة الكثير مما علق بالدواخل. وفي تلك الأثناء جرت عملية إعادة البناء، والترميم للسوق، التي اكتملت في فترة وجيزة. وما أن بدأ السوق يستعيد نشاطه حتى بدأت فظاعة الحدث في التلاشي من الأذهان شيئاً فشيئاً، ولم يبقَ منها إلا تذكاراً نحته المرحوم محمد الحسن الخضر كمبال (أبو جزمة) على عتبة متجره قبل أن تجف عجينتها الأسمنتية:
(حريق السوق 11/1/1982م).
من أين جاء هذا الأستاذ الفريد؟
7
هو محمد حسن محمد أحمدون، من مواليد قرية
منصوركتي عام 1935م، درس بمدرسة تنقاسي الأولية، ومدرسة شندي الريفية الوسطى، ومدرسة وادي سيدنا الثانوية بأم درمان، ونال درجة البكالريوس في الجغرافيا في جامعة القاهرة فرع الخرطوم عام 1960م، ودرجة الماجستير في جامعة القاهرة الأم عام 1978م. وبعد تخرُّجه في جامعة القاهرة فرع الخرطوم عمل مُعلماً بالمدارس الثانوية للبنين، وكانت أولى محطات عمله بمدرسة بورتسودان الثانوية (1960-1961م)، والأهلية الثانوية أم درمان (1961-1962م)، والخرطوم الثانوية القديمة (1962-1965م)، وكسلا الثانوية (1965-1972م). وبعد نيله لدرجة الماجستير عمل بمدرسة دنقلا الثانوية بنات (1979-1980م)، ومنها نُقل مديراً مؤسساً لمدرسة كورتي الثانوية بنات (1979-
1980م)، ثم مديراً لمدرسة كورتي الثانوية بنين
(1980-1982م). وبعد ذلك تقدم للمعاش الاختياري، ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية للعمل في التدريس بالمدارس الثانوية لمدة ستة عشر عاماً (1982-
1998م). وبعد عودته إلى السودان عمل مديراً للتربية
العملية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا (1999-
2003م)، ثم مديراً لمكتب الجداول والامتحانات
بالجامعة نفسها (2004-2005م)، ثم انتقل بعد ذلك إلى
جامعة السودان المفتوحة، حيث عمل مديراً للتربية
العملية (2006-2010م).
وإلى جانب هذا السجل التعليمي والتربوي الحافل
بالعطاء كان الأستاذ محمد حسن أحمدون مهتماً بتطوير
التعليم في منطقة منصوركتي في خمسينيات القرن
الماضي، ويتجلَّى ذلك في الخطابات المتبادلة بينه
ووزارة المعارف والمؤسسات التابعة آنذاك، وذلك بحكم
منصبه سكرتيراً للجنة التعليم الأهلية بمنطقة
منصوركتي، وقد أسهمت جهود تلك اللجنة في ترفيع
مدرسة منصوركتي الصغرى للبنين إلى مدرسة أولية،
وفتح مدرسة أولية للبنات. وكانت عضوية اللجنة
التنفيذية تتكون من الشيخ الحسن إسماعيل رئيساً شرفياً،
وعلي سلمان محمد رئيساً، وسر الختم أحمد محجوب
نائباً للرئيس، ومحمد حسن أحمدون سكرتيراً، ومحجوب الشيخ عبد الحفيظ نائباً للسكرتير، ومحمد التهامي الحسن أميناً للصندوق، وأحمد خليل الحاج نائباً لأمين الصندوق، وعبد الله محمد سيد أحمد محاسباً، ومحجوب محمود إبراهيم نائباً للمحاسب.
بهذا العطاء الأكاديمي المتفرد والمنبسط في بقاع
شتى، كان الأستاذ أحمدون أستاذاً مثالياً، ومربياً استثنائياً لكل من نالوا العلم على يديه وزاملوه في حقول العلم المختلفة، ألا رحم الله الأستاذ أحمدون رحمة واسعة، بقدر ما قدم لمؤسسات التعليم والتعلم في أرجاء المعمرة، فهو أستاذ جدير بالوفاء، وحري بأن يثمن فضله، فنحن لا نعزي فيه ولكن فيه نُعزى.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.