عطبرة أسر الشهداء.. “أجساد بلا أرواح”

عطبرة: ياسر عبد الله

” الحياة أصبحت غير صالحة للحياة ” بهذه العبارة كان يدون حالته بتطبيق الواتس أب، حانقاً على الأوضاع في البلاد هو طارق أحمد عبد الجليل “21” عاماً أول ضحية سقطت بنيران القوات الأمنية بمدينة عطبرة إبان الاحتجاجات ضد الرئيس المخلوع عمر البشير.
فى حي الطليح شرق مدينة عطبرة يقبع منزل الشهيد طارق أحمد عبد الجليل، ليس صعباً أن تصل إلى المنزل فصوره تملأ الشوارع، وهو أول شهيد سقط بالمدينة برصاص جهاز الأمن، المنزل تزين جدرانه صورة الشهيد ومكتوب بجوارها عبارته الشهيرة ” الحياة أصبحت غير صالحة للحياة”

استقبلتنا أمام باب المنزل والدته نعمات عبد الوهاب عبد السلام “52” عاماً وهي ترتدي الثوب السوداني وتضع خماراً على رأسها، وكانت المفاجأة أن قدمت لنا حلوى وحلويات كضيوف قادمين للمنزل، حاولت الظهور برباطة جأش ولكن من بين عينيها تظهر لك مسحة حزن عميقة.
جلسنا على سرير أمام بوابة المنزل وخلفنا تظهر صورة الشهيد وهو ابنها البكر ولها ثلاثة أبناء بنتان وولد.

خروج بلا عودة
تقول نعمات لـ”السوداني”: ” يوم الجمعة الذي استشهد فيه طارق، قبل أن يغادر إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة برفقة صديقه يوم 21 ديسمبر كان يتحدث معي لترتيبات حفل تخرجه من كلية الهندسة جامعة وادي النيل، حيث تبقى له امتحان أخير يوم السبت،، وعقب أداء الصلاة اندلعت احتجاجات بحي الحصايا القريب وذهب إلى هناك”.
تواصل نعمات “بعدها سمعنا صوت اطلاق رصاص عنيف، الرصاص كان زي المطر وبدأ الأهل يتصلون بي وين طارق وطلال اولادك كنت بقول ليهم طلعوا وما موجودين”.
بدأت الدموع تتساقط من عينيها وهي تقول ” تلقيت اتصالا بان طارق إبني اصيب في التظاهرة لكني لم أتوقع نهائياً أن يكون قد مات، غادرنا بسرعة إلى مستشفي عطبرة ومنها إلى المشرحة، ووجدت ولدي مستلقيا على نقالة والدماء تسيل بغزارة منه، أزلت الغطاء من وجهه واصبحت أنادي عليه يا طروقة يا طروقة”، “هذه العبارة التى كانت تناديه بها في المنزل”
هنا انهارت تماماً نعمات وبكت بشدة ” ولدي ما رد علي حينها عرفت أن طارق ذهب ولن يعود هذا يوم لن أنساه طوال حياتي”.
استجمعت قواها وقالت ” طارق كان أول شهيد للثورة في مدينة عطبرة واصيب بطلقة من أحد أفراد جهاز الأمن في مؤخرة رأسه، مات مغدوراً وكان يواجه الرصاص هو وشقيقه ورفاقهم بصدور عارية”.
تقول نعمات ” ابني طارق لم يكن سياسياً في يوم من الأيام والجميع يشهد له بحسن خلقه وأدبه الجم كان برنامجه اليومي الجامعة والمسجد ولعب الكرة”.
وتضيف نعمات” تشييع طارق ابني كان تاريخياً ولم تشهد مدينة عطبرة من قبل كل المدينة خرجت في تشييعه ولأول مرة شارك في التشييع نحو 300 سيدة، أنا راضية بحكم ربنا وأساله أن يتقبله شهيداً، وان يصبرنا على فراقه الحار جداً”.

القاتل معروف
تري والدة الشهيد طارق أن من قتل ابنها معروف وهناك شهود على من أطلق عليه الرصاصة القاتلة، وقالت ” من كانوا معه بالتظاهرة شاهدوا القناص الذي أطلق عليه النار واكدوا استعدادهم للشهادة أمام أي محكمة”.
“القصاص، القصاص، القصاص” رددتها هكذا ثلاث مرات وقالت ” انا كأم شهيد لا أريد اي شىء سوي القصاص من قتلته، قضية طارق ولدي ملفها جاهز ومكتمل والقاتل معروف، ورغم ذلك هناك بطء كبير جداً في ملف الشهداء، مر عام على استشهاده ولم يتم رفع الحصانة عن المتهمين”.
تطالب نعمات رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بتسريع ملف الشهداء وتقول ” لا نريد أن نقول إن الحكومة الحالية جلست على دماء الشهداء، ابسط حاجة ودي من حقنا نري القصاص أولاً وأخيراً واذا لم يحسم ملف الشهداء لن يحدث اي تغيير، الناس ماحاسة بالألم العايشينه و بالسكاكين الفى قلوبنا على فقدان اولادنا”.
وتقول نعمات ” نحن نؤيد رئيس الوزراء ومعاه لتنفيذ شعار الثورة حرية سلام وعدالة، لكن لا بد من محاسبة قتلة الشهداء حتى يتفرغ الشباب لنهضة البلد، أسر الشهداء تعيش في اوضاع صعبة، بحرارة فقدان أبنائهم، وفى ذات الوقت ينتظرون تحقيق العدالة”.

شهيد ومصابان
وفى حي المطار حيث يسكن الشهيد مختار عبد الله حسين “30” عاماً، وقصة استشهاده غريبة إذ أنه سقط يوم 11 أبريل أمام مباني جهاز الأمن والمخابرات بعطبرة برصاصة مباشرة في الصدر اثناء الاحتفال بعد إذاعة بيان سقوط الرئيس المخلوع عمر البشير.
ساقت الأقدار مختار وهو فني كهرباء إلى حتفه في اليوم الذي خرج فيه للاحتفال بانتهاء نظام حكومة البشير.
عندما وصلنا لمنزل زوجة مختار استقبلنا في الباب رجل خميسني يرتدي الجلابية السودانية ويضع “طاقية” على رأسه يتوكأ على عصاة ويسير بصعوبة بالغة، للوهلة الأولى توقعناه والد الشهيد، حتى عرفنا بنفسه وهو ممدوح حسين البطل العمر 59 عاماً، خال الشهيد مختار وعم زوجته، وهو اصيب في يوم 6 أبريل 2018 أمام القيادة العامة للقوات المسلحة بحادثة دهس لسيارة عسكرية أدت إلى اصابته بكسور مركبة في رجله ويده، كما أن ابن شقيقه ويدعى اسامة البطل “22” عاماً اصيب في فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في 3 يونيو الماضي.
وظل ممدوح طريح المستشفى لفترة طويلة وحضر إلى عطبرة لتقديم واجب العزاء.
يقول ممدوح لـ”السوداني” : ” انا خرجت يوم 6 أبريل استجابة لدعوة تجمع المهنيين لأنني خرجت في تظاهرات 6 أبريل 1985 ضد الرئيس نميري وكنت صغيراً، قررت أن أخرج لأدعم شباب الثورة”.
يروي ما تعرض له في يوم الحادثة ” حوالى الساعة 6 مساء يوم 6 أبريل وعندما وصل المتظاهرون بالآلاف أمام قيادة الجيش كنت في نهاية الحشد، وفجأة دخلت عربات تاتشر تتبع لجهاز الامن، قامت بعملية دهس للمتظاهرين، أنا كنت محظوظاً، دهستني العربة في يدي ورجلى، والقت بي بعيداً، وشعرت حينها بأني طائر في الهواء، وسقطت أرضاً، نقلني شباب المتظاهرين إلى مستشفي الأطباء وفى طريقي إلى المستشفي سمعتهم يتحدثون عن استشهاد شابين دهستهما ذات السيارة”.
ويواصل ممدوح” الحادثة أدت لإصابتي بكسر في عظمة الفخذ وكسر مركب في يدي، حتى الآن لا أدري كيف نجوت من الموت”.
الثوار واعون
ويقول ممدوح” وأنا طريح سرير المستشفى اعلن سقوط الطاغية البشير يوم 11 أبريل لحظتها انتباني شعوران أحدها بالفرحة لذهاب الدكتاتور وشعور بالتوجس لأن من أذاع البيان كان وزير الدفاع عوض بن عوف وهو اسلامي ومن المقربين جداً للبشير ويده اليمنى، لكن الثوار واعون اعتصموا حتى تم خلع ابن عوف”.
ويضيف ” في ذات يوم سقوط البشير تلقيت خبر استشهاد ابننا مختار، وطيلة تلك الشهور كنت طريح الفراش والآن جئت زيارة لابناء أخي”.
ويقول ممدوح ” ما حدث لي كان ايام حكم البشير الذي سقط وهو الآن في السجن، لم اتقدم بشكوى أو بلاغ وشكوته إلى الله، ونحن الآن ننتظر المحاكمة الكبرى للبشير بالقصاص لأسر الشهداء وجرائمه التي ارتكبها في دارفور وفى حق الشعب السوداني”.

يوم صعب
عفاف محمود حسين أحمد (28) عاماً، ناشطة اجتماعية وزوجة الشهيد مختار قابلتنا في ذات المنزل وهي ترتدي الأسود الكامل، عباءة سوداء وخمار أسود، وهي تحمل طفلتها الصغيرة ثريا التي رأت النور بعد استشهاد والدها بـ”27″ يوماً.
تروي عفاف لـ”السوداني” عن يوم استشهاد زوجها مختار ” كنا متخيلين يوم 11 أبريل يكون يوم فرح بسقوط الدكتاتور عمر البشبر، كنا فرحانين والشعب كله كان فرحان “.
وتقول عفاف” اتصل بي شقيقي واخبرني أن بيان سقوط البشير الآن يذاع على تلفزيون السودان القومي، خرجت برفقة زوجي إلى منزل أهلى القريب، مختار كان ثورجي من الطراز الأول وكان مبسوط جداً، وقال لي أنا ماشي احتفل مع ناس عطبرة وأنه سيبدأ احتفاله من منزل أسرة الشهيد طارق، غادر مختار وانا غادرت برفقة امي وشقيقاتي للاحتفال بالشارع”.
ثريا الصغيرة التي لم تكمل عامها الأول لا تكف عن الحركة ومداعبة والدتها هنا قالت عفاف” كنت حاملا في الشهر الثامن بثريا وقبلها فقدنا طفلا قبل ولادته وصبرني مختار ووقف بجانبي، وقبل يوم من استشهاده كان ينقاشني في تفاصيل السماية “عقيقة” ووفر لى حق السماية و العملية والمستشفي وسلمني المبلغ كاملاً”.
تواصل عفاف أنه ” بعد خروجهم بساعتين من الاحتفال بسقوط البشير اتصلت بزوجها مختار حتى يعودوا للمنزل، وكان لا يرد عليها وهذا أمر غير معتاد منه، فأصابها القلق، وقالت “بعد عدة محاولات رد على شخص غريب وقال لى زوجك استشهد برصاصة أمام مبني جهاز الأمن والآن في مشرحة عطبرة لم أصدق صرخت وناديت على شقيقي”.

التعرف على الشهيد
“ذهبنا إلى المشرحة زوجي مختار كان غير معروف في عطبرة لأنه قدم للعيش فيها قبل عام ونصف فقط، وجدنا في مستشفى عطبرة أكثر من 20 مصاباً، وقام أحد الشباب باطلاعي على فيديو لحظة اصابة مختار بالرصاص، وتعرفت عليه”.
تروي عفاف التي يطغي الحزن على ملامحها بالكامل “فى المشرحة تعرفنا على مختار، الموضوع كان صعب علي جداً وعلى الجنين الذي في بطني”.
بعد 27 يوماً من استشهاد مختار وضعت عفاف طفلتهما ثريا وتجددت الأحزان وكأنه استشهد لحظة ميلاد الصغيرة..
تقول عفاف إنهم في البداية كانوا يتوقعون بعد سقوط النظام أن تسير قضية الشهيد مختار بشكل جيد ولكن تفاجأوا بالبطء الكبير في اجراءاتها، على الرغم من أن البلاغ مكتمل والجناة معروفون.
وتضيف عفاف ” وكيل النيابة الأعلى قام باجراء غريب بتحويل بلاغ الشهيد من القتل العمد إلى الوفاة في ظروف غامضة، ونحن قلنا له حسبنا الله ونعم الوكيل، لم نجد اي معاونة من اي جهة لا من الوالي أو مدير الأمن بالولاية، لان عدد القوة التي كانت متواجدة بمباني الجهاز قليلة ومعروفة ومن هو الذي كان متواجداً يوم 11 أبريل بالمبنى ايضاً معروف”.
وتتابع” من قتلوا مختار معروفون هناك فيديوهات مصورة لحظة اطلاق النار أمام مبنى الجهاز، وعندما سقط مختار برصاصة مباشرة على الصدر كان يحمي طفلا عمره 10 اعوام لم يستطع التصرف في تلك اللحظات المرعبة”
تقول عفاف ” نحن الآن نريد القصاص لدماء الشهداء ليس مختار او لشهداء عطبرة فقط وانما لكل الشهداء، ولولا دماء الشهداء لما جاءت الحكومة الحالية ولما جلست على مقاعدها”. ” انا رسالتى للحكومة، نحن لا ننكر ما تقوم به حكومة حمدوك ونحن ندعمها، ونقول لها لابد من حسم موضوع القصاص، امهات الشهداء تعبانات من تأخر هذه العملية”.
يعيشون بيننا جسدا بلا روح ويموتون في اليوم ألف مرة أنهم اسر وأمهات وزوجات وأصدقاء الشهداء.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.