بين إصرار البدوي وممانعة قوى الحرية إعادة هيكلة الدعم.. حسابات السياسة والاقتصاد

تقرير: محمد عبد العزيز

نجح وزير المالية ابراهيم البدوي في العبور بالموازنة من مجلس الوزراء بالرغم التحذيرات التي اطلقها تحالف قوى الحرية والتغيير من أن اجراء اصلاحات هيكلية في الاقتصاد قد يقود لنتائج كارثية، وأعلن وزير المالية اجازة مقترح موازنة العام ٢٠٢٠م على أن تخضع للنقاش في المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ومن ثم عرضها على مجلسي السيادة والوزراء خلال اجتماع مشترك لإجازتها بشكل نهائي.

بشريات وصعوبات

ولم يكشف الوزير عن حجم الموازنة كما لم يتطرق إلى تفاصيل أرقامها، قائلا إنها مبدئية وقابلة لإدخال تعديلات عليها، مؤكدا أنها تحمل بشريات بينها مضاعفة الصرف على الصحة والتعليم ومنع فرض أي رسوم دراسية وتوفير وجبة مدرسية مجانية للتلاميذ في الدولة وتضمن مجانية العلاج بالمستشفيات الحكومية وزيادة المرتبات بنسبة 100%.

وبشأن البنزين والجازولين قال البدوي إن المجلس أجاز رفع الدعم عنهما بشكل مبدئي، وأضاف ” المقترح أجيز بصورة مبدئية من مجلس الوزراء وتم إدراج برنامج يراعي اعتبارات معالجة الدعم السلعي الذي سيستمر في دعم القمح ودعم غاز الطبخ بينما سيتم رفع الدعم عن المحروقات بالتدريج”.

وأعلن عن إحداث أكثر من 250 ألف وظيفة كحد أدنى للشباب مع برنامج تنفيذي لدعم الأسر الفقيرة بواقع 1500 جنيه شهرياً لعدد 4.5 ملايين أسرة وتطوير برامج الدخل الأساسي شبه الشامل في المجتمع ليشمل نحو 60 – 80 % من سكان السودان خلال النصف الثاني من العام، مشيرا إلى تقديم الكفالة النقدية ٣٠٠ ألف طالب جامعي.

وكشف عن اضافة مليون أسرة إلى التأمين الصحي في العام الجديد وإنشاء صندوق التنمية والإعمار بمبلغ 9.300 مليار جنيه سيوجه للولايات المتأثرة بالنزاعات، كما أعلن عن تخصيص مبلغ مليار جنيه لبرامج دمج وتسريح المقاتلين بعد تحقيق السلام، مشيرا إلى قابلية المبلغ للزيادة لبند السلام مع الالتزام بالتمييز الإيجابي للولايات المتأثرة بالحروب وتخصيص 7% لتلك الولايات.

تحديات اقتصادية

يواجه الاقتصاد السوداني بعد ثلاثة عقود من سوء الإدارة والفساد والحرب والانقسامات الداخلية اوضاعا مزرية، حيث يعيش 65% من السكان تحت خط الفقر- معدل دخل اقل من 1.25 دولار في اليوم للشخص الواحد بحسب مؤشر الأمم المتحدة-، وبحسب ارقام رسمية سودانية ينفق نصف السكان 75% من دخلهم على الغذاء، فيما ينفقون 80% من مواردهم الخاصة على الصحة، بينما هناك واحد من كل 15 شخصا، في وقت بلغت فيه إيرادات الدولة نحو 162.8 مليار جنيه سوداني (3.6 مليار دولار)، بعجز قدره 3.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بالسودان انخفض إلى النصف منذ العام 2013م، وانكمش النشاط الاقتصادي في عام 2018 بما يقدر بنسبة 2,3%، ومن المتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2,5% في عام 2019. وزاد التضخم إلى 60% في نوفمبر 2019، بينما يواصِل سعر الصرف الموازي انخفاضه السريع. وحدث تدهور في وضع المالية العامة بسبب دعم الوقود المتزايد وضَعْف تعبئة الإيرادات، وارتفع عجز المالية العامة من 7,9% في 2018 إلى 9,3% من إجمالي الناتج المحلي في 2019. ولا تزال آفاق الاقتصاد قاتمة ما لم يتم تعديل السياسات وإجراء إصلاحات شاملة.

ويقول خبراء صندوق النقد الدولي: “يتيح التغيير السياسي للسودان فرصة لتنفيذ الإصلاحات الضرورية التي تعالج الاختلالات الاقتصادية الكلية الكبيرة وتُحدث الظروف الملائمة لتحقيق نمو احتوائي مستمر. وسيكون توسيع شبكة الأمان الاجتماعي وتركيز مساعداتها في البداية عاملا أساسيا للمساعدة على تخفيف وطأة الإصلاحات التي قد تكون صعبة على شرائح المجتمع الضعيفة. ولا تزال فرص التمويل الخارجي المحدودة تشكل قيدا على الاقتصاد. فالمتأخرات الكبيرة تمنع الحصول على التمويل من المانحين الدوليين، بينما تظل آفاق الحصول على تمويل خارجي كبير من المانحين الثنائيين محاطة بعدم اليقين”.

فلسفة الدعم

تلجأ العديد من الدول إلى دعم السلع والخدمات الاساسية بهدف تمكين الفئات منخفضة الدخل من الحصول على هذه السلع، بالإضافة إلى هدف تحقيق العدالة الاجتماعية، الا أن تجارب العديد من الدول أوضحت أن سياسات الدعم، وخاصة الدعم الشامل، غير فعالة.

تهدف سياسة دعم الوقود في السودان إلى خفض العبء الاقتصادى على الشرائح الفقيرة. لكن الطريقة الحالية لتطبيق الدعم -الدعم الشامل” حيث يتاح للافراد من الشرائح المختلفة الحصول على الوقود بنفس السعر.

” أثيرت العديد من النقاشات والتساؤلات حول مدى كفاءتها وعدالتها، وما إذا كان الأغنياء أكثر استفادة من الدعم في مقابل الفئات المستهدفة، وما يترتب على ذلك من أثر سالب على توزيع الدخول .تمثل سياسات الدعم الشامل ضغطا كبيرا على النفقات العامة، وتؤثر على أداء القطاعات الاقتصادية من خلال مزاحمة الإنفاق العام، حيث يمكن أن يتم توجيه جزء كبير من موارد الدعم غير المرشد إلى القطاعات الإنتاجية ذات الأولوية وإلى برامج الحماية الاجتماعية الأكثر فائدة للطبقات الفقيرة مباشرة. إن مشكلة الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية لا تكمن فقط في الضغوط المالية على نفقات الدولة، بل أيضا نشر وسيادة ثقافة الاستهلاك غير المرشد للسلع المدعومة.

بالنسبة للخبز، يبلغ دعم القمح وحده 22.11200 مليون جنيه نحو 365 مليون دولار، ويستهلك السودان 2,5 مليون طن قمح سنويا ينتج منها 40% ويواجه البنك المركزي صعوبات في توفير النقد الاجنبي لمقابلة الاستيراد، فيما تدفع الحكومة لتجار القطاع الخاص 680 جنيها دعما لكل جوال يحتوي على 150 كيلوجرام من الدقيق الذي يستوردونه. وقال مصرفي إن الجوال الواحد يبلغ سعره في العادة نحو 1230 جنيها-طن القمح 215.7 دولار ويباع محليا بنحو 129 دولار (16 جوال دقيق زنة 50 كيلوجرام)-.

بعد ذلك تحدد الحكومة سعر البيع بالتجزئة للخبز عند جنيه واحد لكل 40 جراما. ويقول مصرفيون إن الزيادة السابقة في السعر كانت في يناير 2018، عندما تم رفع سعر الرغيف من نصف جنيه، في تحرك أطلق جولة احتجاجات محدودة.

وبحسب تجارب دولية فان الاكثر فعالية هو دعم الافراد نقدا بدلا عن دعم السلع الذي يؤدي لرفع نسبة التضخم الذي يضر بالشرائح الضعيفة اكثر، كما أن الاقتصاد الذكي يتقدم اكثر ويقوم بدعم المنتج بدلا عن المستهلك مما ينعكس بشكل ايجابي على اسعار السلع، فيما سيكون الناس أكثر ارتياحًا إذا تمت إعادة توجيه جزء من ذلك إلى التعليم والصحة والزراعة والبنية التحتية. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الدعم الشهري للوقود في السودان كفيل ببناء 7 مستشفيات بكامل تجهيزاتها أو 150 مدرسة ثانوية بكامل تجهيزاتها.

دعم الوقود

يعتبر سعر البنزين في السودان ثالث ارخص سعر في العالم بعد اثنين من اكبر منتجي النفط (فنزويلا وايران)،

استهلاك البنزين اليومي 4 آلاف طن العجز 800 طن متري الانتاج 3200 طن، وانتاج الجازولين 4500 طن متري مقابل 8800 طن حجم الاستهلاك.

وبحسب دراسة غير منشورة عن دعم الوقود، نجد انه خلال الفترة من 2013-2018 بلغ المتوسط السنوي لاستهلاك الجازولين 23200 ألف طن، بنسبة 44 % من إجمالي الاستهلاك، يبنما بلغ استهلاك البنزين 03281 الف طن، بنسبة 81 %، وبلغ استهلاك غاز الطبخ 446 الف طن، بنسبة 8 %، فيما بلغ استهلاك الفيرنس 210 طن، بنسبة 6%، في حين مثلت بقية المنتجات 1 % من إجمالي الاستهلاك .

تحدد الحكومة سعر البنزين عند 6.17 جنيه سوداني للتر، وهو ما يعادل نحو 13 سنتا أمريكيا وفقا لسعر الصرف الرسمي، ويُباع الديزل بسعر 4.25 جنيه سوداني للتر- يبلغ سعر جالون البنزين عالميا 4.5 دولار، فيما يبلغ سعر جالون الديزل 4 دولار-، وتشير بعض التقديرات إلى أن استهلاك الحكومة والقوات النظامية من الوقود يمثل نسبة عالية الا انه لا توجد ارقام رسمية.

وحسب تقرير وزارة المالية السودانية، فإن قيمة دعم المحروقات في موازنة العام الحالي بلغت 33.11460 مليون جنيه نحو 2.25 مليار دولار.

من حيث الاستهلاك القطاعي، فإن قطاع النقل يمثل أكثر القطاعات استهلاكا للوقود، إذ يستحوذ على حوالى 60 %، في المتوسط من الاستهلاك الكلي، منها 61 % جازولين، و 39 % بنزين، يليه قطاع الكهرباء، والذي يستهلك حوالى 15 % من الاستهلاك الكلي، منها 80 % جازولين، و 15 % ديزل ، ثم قطاع الصناعة بحوالى 10 %، منها 66 % جازولين، و 19 % غاز، و 13 % فيرنس، ثم القطاع الزراعي بنسبة استهلاك 6%، منها 98 % جازولين، والقطاع المنزلي بنسبة 5%، في حين تستهلك القطاعات الاخرى حوالى 4%.

فيما يلى الاستهلاك الولائي، نجد أن ولاية الخرطوم هي أكبر الولايات إستهلاكا للوقود، بنسبة تتجاوز 40 % في المتوسط، تليها ولايتا الجزيرة ونهر النيل، وتستهلك الولايات الثلاث مجتمعة اكثر من 65 % من الاستهلاك الكلي.

العديد من الدراسات حول عدم جدوى الدعم الشامل وجدت أن الاغنياء يستفيدون بصورة اكبر من الفقراء، ففى دراسة لصندوق النقد الدولي حول سياسات الدعم في الدول النامية، وجد أنه في المتوسط تتحصل شريحة اصحاب الدخل الاعلى على حوالى ستة أضعاف فوائد الدعم مقارنة بالشرائح الدنيا من الدخل، أي أن نسبة ما تتحصل عليه الطبقة الغنية من دعم الوقود تبلغ 43 % فيما تبلغ استفادة الطبقة الدنيا 7 % من دعم الوقود.

مطلوبات عاجلة

هنالك العديد من الاختلالات في هيكل الاقتصاد وفي السياسات الاقتصادية تحتاج للإصلاح ولكن يبقى الدعم من اكبرها وأكثرها وضوحا ضمن بنود الموازنة العامة وله تأثير مباشر على توجيه وإعادة توجيه انفاق الموارد العامة، مسألة اعادة هيكلة الدعم ليست قضية اقتصادية مجردة بل ترتبط بالسياسة وتنعكس على المشهد، لاسيما وان القطرة التي افاضت ثورة ديسمبر ارتبطت بأسباب اقتصادية.

ومع ذلك يظل إصلاح الدعم من القضايا الشائكة اذ يتطلب اصلاحه أن يتم ضمن خطة متكاملة و توفر آليات تخفف اثر الإصلاح على الفقراء – مطلوبات فنية وسياسية .

ثمة مطلوبات عاجلة تستدعي اتخاذ حزمة من الترتيبات لتقوية مؤسسات الحوكمة الاقتصادية واصلاح المؤسسات خاصة في ظل وجود 460 شركة رمادية – تجمع بين الحكومة والقطاع الخاص في ملكيتها- ونحو 100 شركة لا تساهم في الموازنة ولا تخضع للمراجعة، علاوة على زيادة التحصيل الضريبي يصل لنحو 6% ، وتشير تقديرات إلى أن الفاقد الضريبي بسبب الإعفاءات يتراوح بين 30-40%، مما يستلزم رفع التحصيل إلى 15% على الاقل، بموازاة ذلك يشكل الفساد تحديا اساسيا و تشير دراسة إلى أن تكلفة الفساد سنويا في السودان تصل لنحو 14 مليار دولار، بجانب ذلك تفعيل التعاونيات وآليات الرقابة على الاسواق لضمان ثبات الاسعار ووصول الدعم لمستحقيه عبر وزارة التجارة والقوات النظامية وجمعيات حماية المستهلك.

قوى إعلان الحرية والتغيير ومراقبون يستشعروا الموقف فأعلنوا رفضهم لرفع الدعم عن المحروقات في الوقت الراهن، واقترح المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير على وزير المالية رفع الدعم عن المحروقات بالتدرّج بعد 6 أشهر، وأنّهم أبلغوه رفضهم تحرير أسعار المحروقات بالطريقة التي عرضت في مشروع الموازنة، مشيرين إلى أن الأوضاع لا تحتمل رفع الدعم في الوقت الراهن.

رئيس حزب الأمة الصادق المهدي يلفت إلى أن التعافي الاقتصادي يتطلب عقد مؤتمر قومي اقتصادي للاتفاق على تشخيص الحالة، وتحديد الواجبات الذاتية المطلوبة، والاتفاق على مناشدة الأشقاء لتجنب التجاذب الذي دمر الساحة السورية والساحة الليبية، والاتفاق على دعم السودان بمشروع مارشال تنموي، فضلا عن اقرار الأسرة الدولية أن السودان بموجب الثورة قد عبر لمرحلة تاريخية جديدة، ما يسقط تلقائياً كل العقوبات الموجهة للنظام المخلوع، وتأكيد الاستعداد لدعم السودان المتجه نحو التحول الديمقراطي الكامل.

في الاثناء يحذر الكاتب والمحللل السياسي الحاج وراق مجلس الوزراء من خطورة العواقب الاجتماعية والسياسية لرفع الدعم عن السلع الاستراتيجية.

ويقول وراق إن الأولوية الآن لإعادة بناء المؤسسات وإصلاح النظام المصرفي وإصلاح الخدمة العامة والمدنية وتأسيس شبكات حماية اجتماعية حقيقية كفؤة وفعالة وتنظيم المؤتمر الاقتصادي الذي دعت له قوى الحرية والتغيير ليناقش ويفاضل بين الخيارات الاقتصادية المختلفة بعد تشاور حقيقي بين الخبراء وحوار مجتمعي واسع.

وأضاف وراق بأن اتخاذ قرارات اقتصادية رئيسية قبل إصلاح الخدمة العامة كنظم ولوائح وحوافز لرفع الكفاءة وإيقاف الهدر والفساد يكرر تجربة “غورباتشوف” في الاتحاد السوفيتي السابق والتي أدت إلى خراب الاقتصاد وتدمير الدولة.

وقال انه يستغرب من عناد ومكابرة وزير المالية في رفضه للمؤتمر الاقتصادي والاستعاضة عنه بمشاورات غير شفافة ومع غير الخبراء، وأضاف أن هذا العناد لا يليق بمجلس وزراء مهمته الأساسية تنظيم انتقال البلاد للديمقراطية والتي عمادها وسداها مشاركة الشعب في اتخاذ القرارات، وأضاف أن هذه الذهنية المعاندة والمكابرة كانت أحد أهم أسباب انهيار النظام السابق وفي حال سيادتها حالياً ستؤدي كذلك لانهيار السلطة الانتقالية، الأمر الذي لا تحتمله أوضاع البلاد الهشة.

على كل تبدو عملية اعادة هيكلة الدعم مهمة وحيوية لانعاش الاقتصاد الا أن هناك جملة مطلوبات لابد من تحقيقها لانجاح الموازنة بجانب التخطيط الجيد مثل التفويض الشعبي عبر حوار مجتمعي واسع ودعم إقليمي ودولي خاصة مع اصدقاء السودان في الخليج اسوة بما حدث لمصر لتعزيز برامج الحماية الاجتماعية، بجانب ضرورة اعادة دمج في السودان في النظام المصرفي العالمي وهو ما يتطلب رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب او وضع استثناءات مصرفية على الاقل لجذب تحويلات المغتربين عبر القنوات الرسمية قد يوفر من 6-8 مليارات دولار سنويا فضلا عن استفادة السودان من مبادرة هيبك لاعفاء الديون، مع العلم انه في حال انحصرت عملية الاصلاح على الموارد المحلية دون دعم خارجي فستتوقف العملية في منتصف الطريق وتقود لنتائج كارثية.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.