تفكّك ترويكا الانتقال..

(1)
بعد بضعة أشهر فقط على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية بين المكوّنات العسكرية والمدنية حول أجندة وإدارة الفترة الانتقالية، عاد الغموض مرة أخرى يحيط بمستقبل السودان السياسي وسط معطيات متزايدة تشير إلى أن صمود هذه الترتيبات باتت محل شكوك في ظل تحديات جمّة تواجه الحكومة الانتقالية، يزيد من تعقيداتها تفكك عرى الشراكة، الضامن الأساس لإنجاحها، التي جمعت ترويكا الانتقال الحاكمة التي أفرزها توازن القوة والمستندة على ثلاثة اضلاع، القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، والحكومة المدنية وحاضنتها السياسية قوى الحرية والتغيير.
(2)
ولعل السبب الرئيس وراء هذه التطورات المتسارعة المنذرة بتغيير قواعد اللعبة الراهنة التي تحكم الفترة الانتقالية، يعود إلى تحوّل الشراكة المفترضة بين ترويكا الانتقال من ضامن لتعاون وثيق منتج بين أطرافها الثلاثة ملتزم بالأسسس التي أرستها الوثيقة الدستورية، إلى تنافس محموم بينها في سباق مكشوف لتعديل موازين القوة بما يخدم أجندة كل واحد من أطرافها الثلاثة في فرض سيطرته من أجل تحقيق الطموحات السياسية لقادتها على حساب المصلحة الوطنية العامة التي كانت متوخاة من هذه المعادلة لقيادة انتقال البلاد من نظام شمولي قابض وتهيئتها لتحوّل ديمقراطي مرجو.
(3)
كان ظاهر الأمر عند تركيب معادلة الانتقال هذه، بعد مفاوضات شاقة وتقلبات حادة قادتها وساطة أجنبية، أنها تهدف لتحقيق توازن بين ما كان يعرف إجمالا بالمكونين العسكري والمدني، بافتراض أنهما يمثلان قمة التناقض في المعادلة السياسية، غير أنه ما لبث أن تبيّن أن هذا الافتراض بثنائية الصراع السياسي على السلطة لا يعكس في واقع الأمر حقيقة أن التناقضات داخل كل مكوّن أعمق بكثير وأبعد أثراً من توقعات الأطراف الخارجية التي ضغطت لفرض هذه الصيغة لشراكة عسكرية مدنية سرعان ما تبين مدى هشاشتها، وعجزها عن الوفاء باستحقاقات الفترة الانتقالية، ولم تكد تمر أشهر معدودة حتى وصلت إلى طريق مسدود، وتكاثرت المؤشرات على ضعف قدرتها على الاستمرار، في وقت بدأ الحديث عن تكهنات السيناريوهات البديلة لا يثير استغراباً.
(4)
بُنيت معادلة الانتقال على أساس أن المكوّن المدني في هذه الشراكة، الذي كانت قوته المستندة على تماسكه التنظيمي وقدرته على تحريك القاعدة الشعبية، هي التي يعوّل عليها في ضمان استمرار الحالة الثورية وتعزيز السيطرة المدنية على سلطة الانتقال، وقد ضمنت الوثيقة الدستورية على مستوى النصوص كل ما يلزم لتعضيد قيامها بهذا الدور، مع حرص على إضعاف قبضة وسلطة المكوّن العسكري واقتصاره على دور شرفي، بيد أن المفارقة جاءت من أن الطرف المدني، من بين ترويكا الانتقال، كان هو الأسرع في فقدان تماسكه بدخوله في حالة تشرذم أضعفت دوره القيادي إلى حد كبير على خلفية انفجار صراعات مبكرة بين مكوناته.
(5)
وعلى الجانب الآخر فإن المكوّن العسكري في هذه المعادلة ليس أحسن حالاً، فمع ارتياحه لتعثّر المكوّن المدني وتحميله مسؤولية فشل الحكومة، ومسارعته إلى نعي شراكة الانتقال مع الجانب المدني، واتهامه بعرقلة مساعي العسكريين للمشاركة في تقديم حلول للأزمات التي تحيط بالمواطنين، إلا أن هناك ثمة شواهد كثيرة أن المكون العسكري بشقيه لم يعد على قلب رجل واحد، إذ أن الموقف من المدنيين وحده ليس كافياً للحفاظ على وحدتهما، مع تزايد حدة التنافس بينهما الذي يغذيه بروز الطموحات السياسية لقيادتيهما، فضلاً عن الصراع المكتوم بينهما حول احتكار القوة الذي كان تاريخيا محسوماً للجيش.
(6)
وفي ظل تفكك ترويكا الانتقال، وتحوّلات موازين القوة، تبدو الساحة مهيأة لتغيير ما في معادلة الانتقال الراهنة، تجري هندسته في بعض عواصم القرار الدولي، ليس واضحاً بعد أبعاده، لكن الأكثر ترجيحاً أنه سيرتكز على دور محوري للمستفيد الأكبر من هذه التطورات. أليس واضحاً من هو؟!

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.