محمد شاويش – برلين

الماركسية: ولادة وموت الأيديولوجيات.. هل سيكون مصير الإسلامانية هكذا؟


شارك الخبر

ولدت الماركسية في القرن التاسع عشر (في نهاية أربعينات ذلك القرن مع “البيان الشيوعي”) وتكوّنت بالتّدريج ضمن الحركة الاشتراكية الأوروبية التي كانت موجودة قبلها إلى أن أصبحت فلسفةً وعقيدةً ثوريةً مُتميِّزة عن غيرها مع نهاية القرن التاسع عشر، حيث تبنّتها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبيّة وأكبرها كان الحزب الألماني. وخِلافاً للمُتوقّع في النّظرية انتشرت الماركسية في بلد نصف مصنع ويكاد يكون بلد فلاحين هو روسيا، وظهر في الروس مُنظِّرون كبار نافسوا المُنظِّرين المَاركسيين في غرب أوروبا، بَل تَفوقوّا عليهم. وعلى أن تعلم أنه في هذا البلد انتشرت الاشتراكية في النخبة المُتعلِّمة الروسية، بل في طبقة النبلاء نفسها حتى كان القيصر في ثمانينات القرن التاسع عشر يسأل ضيفه: أنت اشتراكي طَبعاً! أليس كذلك؟.
وتَكوّن في روسيا حزب اشتراكي يهتدي بالماركسية منذ ثمانينات القرن التاسع عشر، ثُمّ انشق جناحه الثوري الجذري تحت قيادة لينين وآخرين عام 1902. وهذا الحزب تمكن من القِيَام بأدوارٍ مُهمّةٍ في تسيير الثورتين الشعبيتين الكَبيرتين عام 1905 ثُمّ في فبراير عام 1917، حيث هيمن بالتدريج على المجالس الشعبية ثُمّ قام بحركة عسكرية استلم فيها السلطة في أكتوبر بالتقويم الأورثوذكسي القديم.
لكن الماركسية لم تتحوّل طبعاً إلى ايديولوجيا رسمية للدولة وتُقونن وتقعد في كتب مدرسية حتى عهد ستالين الذي بدأ مع وفاة لينين عام 1924. وبالتّدريج استعمل ستالين أفكار لينين وكتاباته بَعد إعادة تأويلها وسمى الأيديولوجيا – العقيدة الناتجة عن الدّمج بين كتابات ماركس وإنجلز المؤسسة وكتابات لينين المطبقة للمَاركسية على الوَضع الرُّوسي “الماركسية اللينينيّة”. وهذه ملأت الدنيا وشغلت الناس وشغلت بال الرأسماليات الغربية بالتّحديد التي جرّبت كل أشكال التّدخُّل لإسقاط الحكم الشيوعي المُزعج (وهو تَوصيفٌ استعمله أعداء النظام السوفيتي أكثر مما استعمله هو لأنه كان يرى أنه “اشتراكي” ولم يصل لمرحلة الشيوعية بعد!). 
ورغم أنّ كثيرين من المُثقّفين الماركسيين في الغرب لم يعجبهم النظام السوفيتي منذ ستالين، وأنكروا أن يكون تجسيداً أميناً للأفكار الماركسية، وسَتجد هذه السِّجَالات تَملأ الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين الذي دَعَاه سارتر “قرن الماركسية”، إلا أنّ هذا النظام كان يُشكِّل الأساس عارضته أم أيّدته، بتأثير هيبة الماركسية بما هي أيديولوجيا سياسية وفلسفة شاملة تدعي الإحاطة بالحياة كلها. وستستغرب بالمُناسبة إن قرأت كتابات لينين وغيره أيضاً من الماركسيين حتى الغربيين منهم التماثل الشكلي على الأقل مع الكتابات الفقهية عندنا! حيث تشكل نصوص ماركس وإنجلز (ثم لينين بعد وفاته) نصوصاً مقدسة عملياً لا يختلف الماركسيون على صواب ما فيها بل يختلفون على تأويلها وتفسيرها وتنزيلها على الواقعة التي يجري النقاش حولها!
في الاتّحاد السوفيتي وفي العالم بأسره، نشرت عشرات الألوف من الكتب عن المَاركسية معها وضدها، وفي الاتّحاد السوفيتي أسّست معاهد تُخرِّج اختصاصيين بالماركسية، وكل عام كُنت تجد كتباً جديدة عنها وعن تطبيقاتها في المجتمع السوفيتي، وكان العالم مشغولاً بها اعتراضاً أو مُوافقة، وبالتوازي مع الماركسية السوفيتية ظهرت تيارات ماركسية صينية، وأخرى تخص العالم الثالث، وأخرى أنتجها فلاسفة غربيون عدُّوا أنفسهم ماركسيين منهم وجوديون مثل سارتر، ومنهم بنيويون مثل التوسير، ومنهم هيغليون وفرويديون من أمثال ماركوزه. واليسار الجديد الذي تكوّن مع الحركة الطلابية عام 1968 في غرب أوروبا وترافق مع الغيفارية والماوية، كان له تأثيرٌ في الوطن العربي استمر حتى نهاية الثمانينات.
مع سُقّوط الاتحاد السوفيتي أول التسعينات انهار البناء كله كأنه لم يكن! انتبه إلى هذه الواقعة الغريبة التي تهم باحثاً يريد أن يبحث في آليات نهوض الأيديولوجيات وسقوطها: لم تنهر الماركسية السوفيتية فقط، بل انهارت معها الماركسيات التي كانت تنقدها وتنكر عليها أنّها ماركسية حقيقية!
لماذا أسوق كل هذا الاستعراض لنُشوء الماركسية وشبابها ثم شيخوختها وموتها؟ أريد من هذا أن أقارن مع الأيديولوجيا الإسلامانية لأذكر بما كتبته مراراً: لم يكن إنشاء أيديولوجيا مُوازية ومُنافسة للمَاركسية باسم الإسلام حدثاً يُبشِّر الإسلام بخير! الأيديولوجيا تنهار مع انهيار السُّلطة السياسية التي تتبنّاها. هل تريدون أن ينهار الإسلام كما انهارت الماركسية وانتم تصرون بفقدان بصيرة غريب أنّ الإسلام عنده بديل، وأنه هو “الحل”، وأنّه يكفل حل مشاكل المُجتمع كلها بمُجرّد وصول “الإسلاميين” إلى السلطة؟ ألا تخشون من أن الناس ستترك الدين إن أخفق الحزب أو السلطة التي تنطق باسمه مثلما تركت الماركسية ما دمتم حولتم الدين إلى أيديولوجيا سياسية؟ من جهة أخرى وهو فكرة وهاجس دالم عندي: هل من المُفيد حقاً للمنظرين والباحثين هدر وقتهم في مُناقشة الإسلامانية؟ ألن تفقد كتاباتهم كل قيمة بانهيار الإسلامانية كما فقدت كل كتابة مؤيدة أو ناقدة للماركسية أهميتها بمجرد انهيار الماركسية عام 1990؟.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.