د. يوسف الكودة – المحامي

ما الذي يفتقده المُسلمون (تطبيق شريعة) أم معنى ومدلول شريعة؟!

شارك الخبر

استطاعت جماعات الدعوة إلى الشريعة الإسلامية أن تُكوِّن رأياً عاماً أوساط كثيرٍ من المهتمين بالعمل الإسلامي يُنادي بضرورة تطبيق الشريعة، فانتظم هذا الرأي غالب أفراد المُجتمع المسلم فعظّموه في ما بينهم وتبنّوه تبنياً فكرياً كاملاً وتواصوا على نشره مبينين خطورة إقصاء ذلك الأمر الذي قد يصل بصاحبه إلى الكفر لطالما أنّ نصوص القرآن الكريم واضحة في ذلك (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ذلك كله دون أن يُخَصِّصوا ولو شيئاً قليلاً من ذلك المجهود لشرح مصطلح كلمة (شريعة) فاكتفوا بصحة الأدلة المُوجبة لها دُون الدخول في ما يُعرف من فقه يميِّز ما بين الأدلة الصحيحة ومدلولاتها، إذ تقرر في علم القواعد الفقهية بأنّه (لا يلزم من صحة الدليل صحة المدلول)، فإخوتنا هؤلاء بذلوا كل الوسع في إيراد ما صح من أدلة تُوجب تطبيق الشريعة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء بحث لمعاني تلك الأدلة والفقه المراد منها، وكيف لا يكون ذلك وقد تقرّر عند أهل الفقه والأصول أنّه لا يلزم صحة المدلول بمُجرّد صحة الدليل فكم من حامل دليل صحيح لا يعي مراد الحديث وفقهه.
وبلا شك كان لعدم تحرير تلك المسألة أن دخل الناس في حيرةٍ من أمرهم، إذ يُطالبون بواجب لا يعرفون له كُنهاً ولا معنىً مُحَدّداً حتى تصوّر عند بعضهم وكأنّ تلك الشريعة هي شئ مُختلف تماماً عن ما يُمارسه الناس من عبادات وشعائر، بل كأنّه شئٌ يُوجد في سرداب يختطفه عدو من الأعداء فلا بُدّ من العمل بجدٍ لإعادته إلى مكانه حتى تتحقق تلك الأشواق أشواق تطبيق الشريعة الإسلامية.
*ما هي الحقيقة إذن؟
الحقيقة الغائبة تماماً بسبب ما نعيش من أزمة سميتها أزمة مصطلحات هو غياب معنى مُصطلح شريعة أو ما هو المراد من كلمة شريعة؟
عندما يريد الإنسان أن يبحث في هذا الباب باب الشريعة الإسلامية فأول ما يتبادر إلى ذهنه قوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا…) فالآية تتكلم بوضوح عن وجوب الالتزام بالشريعة الإسلامية، ولذلك لا بُدّ من الرجوع للاهتداء ببعض أقوال من سلف ومن علماء مروا على هذه الآية تفسيراً وشرحاً.
ولعدم إشغال القارئ بعملية نقول من تلك التفاسير العديدة اكتفي بالقول إنّ كل التفاسير التي مرت على هذه الآية شرحاً وتفسيراً تجمع على أنّ المراد بالشريعة التي يجب علينا التزامها هو (الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والبيوع والنكاح والطلاق على كتاب الله وسنة رسوله، وسائر أعمال الخير والبر)، والمُلاحظ أنّ تلك التفاسير التي أجمعت على ذلك المفهوم لكلمة شريعة أحياناً تمثل للشريعة بالحدود الشرعية وأحياناً لا تمثل بها وتكتفي فقط بما ذكرناه من أمثلة مع أن الحدود هي من الشريعة الإسلامية بلا خلافٍ، ولكن أحببت أن أشير إلى من يعظم أمر تلك الحدود ويُغالي لدرجة أن انطبع في أذهان المُسلمين أنّ الشريعة هي الحدود وحدها.
إذن يمكننا القول بأنّ الشريعة هي كل تلك العبادات المُتنوِّعة من صلاة وصيام وزكاة وحج ….إلخ مما لم يحدثنا عنه دعاة الشريعة ولم يدخلوه أصلاً في مسمى شريعة فقط تم الطرق على قانون العُقُوبات الإسلامي حتى بدا للناس وكأنّ المراد من تلك الشريعة هو القضاء والمحاكم، حيث الجلد فقط وقطع الأيادي والقتل من خلاف ولا شئ من حديث عن عدل أو رحمة أو حريات أو عدالة اجتماعية أو مساواة أو سلام.
*العمل الطوعي من أعظم أبواب الشريعة
ومِمّا فات على الكثير مِمّا هو أعظم بكثيرٍ من معاني الشريعة الأخرى كنفل الصلاة والصيام هو العمل الطوعي ما يُعرف بـ(العبادات الأفقية) مثل إنشاء منظمات المُجتمع المدني للقيام بتقديم النفع للناس من إطعام وملبس وسكن وعلاج وتعليم حسبما ورد في الحديث القدسي (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) ولما ورد فى الحديث (لأن امشي مع أخي في حاجة احب الي من أن اعتكف في هذا المسجد شهرا) والمسجد هو المسجد النبوي الذي تعدل الصلاة فيه أجر ألف صلاة في ما تبقى من مساجد مِمّا يدل دلالة واضحة على عظم العمل الطوعي وتقديمه على النفل من صلاة أو صيام.
*هل نحن على شريعة؟
ربما ظن البعض أنّه إذا لم يف الحاكم بما عليه من واجبات تجاه الشريعة مثل إقامة الحدود فلا يصح أن نُوصف هذا المُجتمع أنّه مُجتمعٌ على شريعة حتى تُقام فيه تلك الحدود، ولكن هذا حُكم غير سليمٍ فتماماً وكما أننا لا نستطيع أن نسلب مسمى مُسلم من شخصٍ مُسلمٍ مهما كان غارقاً في المعاصي كبيرها وصغيرها فسيظل مسلماً مع كل تلك التّجاوزات، فكذلك لا يحق لنا سلب صفة شريعة على أيِّ مُجتمعٍ مسلم برغم ما فيه من نواقص ولا سيما تلك المجتمعات التي يسمع فيها صوت الأذان وتُقام فيها الصلوات فإنها مجتمعات على شريعة برغم تلك النواقص ومفهوم الحديث عن نواقص ومتممات وتجويد وليس مفهوماً الحديث عن وصف بجاهلية أو مطالبة لشريعة من الألف مع غض الطرف لكل ما يُمارسه المُجتمع من معانٍ لمفردات مصطلح شريعة.
*الشريعة ليست تكليفاً للحاكم وحده
يَتَبَيّن مِمّا ذكرنا من شرحٍ وتفصيلٍ بأنّ الشريعة ليست هي تكليف يلي الحاكم وحده، بل معظمها مِمّا يلي المُجتمع، فالمُجتمع المسلم تتجلّى مُراعاته والتزامه بالشريعة في أدائه للصلاة والصيام والزكاة والبيع والشراء وفق الحلال والحرام والزواج والطلاق والمُعاملة بينه وبين الآخرين مُهتدياً في كل ذلك بكتاب الله وسنة رسوله إضافةً لما ذكرنا ما نطلق عليه بالعبادة الأفقية ذات النفع المُتعدي بخلاف العبادة الرأسية التي يقتصر النفع فيها على صاحبها فقط.
*حكم ترك الحاكم لما يليه من واجب الشريعة
ومِمّا يفوت على المُغالين في مُناداتهم لتطبيق الشريعة والحكم بالكفر عَلى مَن لم يحكم فيها بما أنزل الله فقول غالب جمهور العلماء بما في ذلك الصحابة أن الكفر الذي ذكر في تلك الآيات (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ليس هو الكفر الذي يخرج من الملة وإنما هو كفر دون كفر بمعنى أنه صاحب كبيرة.
لاحظ هذا في حق من يتعمّد ترك الحكم بما أنزل الله لهوى ومصلحة دنيوية، أما من يترك ذلك بسبب فقه أو مُراعاة لمصلحة عُليا فهو مجتهد له أجر الاجتهاد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية والحاكم يؤآخذ على ما يفرط فيه من الحقوق مع التّمكُّن ويقول بعضهم (وليس واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار) ويقولون كذلك (المعجوز عن أدائه ساقط الوجوب والمضطر إليه بلا معصية غير محظور).
*حكم سن قوانين تجرم المعاصي
قانون النظام العام (أنموذجاً)
لا يجوز سَن عُقُوبات على من يرتكبون معاصٍ لم ترد فيها عقوبات ولم يؤثر فيها شئ عن الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما عرف بقانون النظام العام من مُلاحقة للفتيات غير المتحجبات وضربهن بالسياط وحملهن بأوضاع غير لائقةٍ على عربات الأمن والشرطة بسبب أنّهن غير متحجبات، فبلا شك هذا السلوك وإن أتى بنتائج فنتيجته غير إيجابية، وذلك لأنّ العبادات لا يثاب صاحبها إلا بالنية وإلا نكون قد خلقنا مُجتمعات سماتها النفاق والعياذ بالله.
علينا القيام بواجب الدعوة لنشر ما نراه فضيلة دينية والسعي نحو تكوين رأي عامٍ فيه ليحرس المُجتمع تلك الفضيلة، فالرأي العام أقوى من القانون في حراسة الفضائل والقوانين لم تعد لتطارد الكثرة من الجامحين من المُسلمين وإنّما لحماية ما ينشؤه المُجتمع من فضائل بمُطاردته للقلة المنفلتة منه الخارجة عن القانون، فلا يجوز أبداً سن قوانين تجرم معاصٍ لم يجرمها الشرع من قبل.
*فقه المُمكن والتدرُّج
إنّ الإسلام كل الإسلام موقوفٌ أمر تنفيذه والالتزام به على الاستطاعة والاستطاعة هنا ليس مُجرّد المقدرة على الفعل، وإنّما المراد بها الاستطاعة الشرعية التي لا تجر مفاسد كبرى عند إرادة تنزيلها إلى الواقع، فمعلومٌ أنّه لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أكبر منه وقالوا في ذلك أيضاً
(ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر).
لذلك قال أهل العلم عن يوسف عليه السلام
(ويوسف عليه السلام لم يستطع أن يفعل كل ما يريد ويراه من دين الله فان القوم لم يستجيبوا له ولكنه فعل الممكن).
لكن للأسف تجد اليوم كثيراً ممن يهتمون بالعمل الدعوي يطالبون بإنزال أحكام الإسلام كيفما اتّفق دون الهداية بذلك النوع من الفقه.
كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز شاباً مُخلصاً في إسلامه غيوراً على دينه، ولكنه يفتقر إلى كثير من الفقه فقال ذات مرة لأبيه الخليفة العادل أول المجددين عمر بن عبد العزيز (يا أبتي ما يمنعك أن تمض لما تريد من العدل ووالله ما كنت أبالي ولو غلت بي وبك القدور في ذلك، فقال له أبوه يا بني ان قومك شدوا هذا الأمر عروة عروة وعقدة عقدة فمتى ما أريد مكابدتهم لانتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً تكثر فيه الدماء ووالله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق بسببي محجمة من دم أو ما تريد أن يقال على أبيك أنه كل يوم يحيي سنة ويميت بدعة).
وكان يقول :
(اني لأريد أن أحيي الأمور فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه).
ويقول :
(ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم شيئاً من الدنيا).
ولا يفوتنا الاستشهاد بقول السيدة عائشة رضي الله عنها حينما تكلمت عن فقه التدرج وضرورة ذلك فقالت (ان أول ما نزل منه سورة من المفصل حتى إذا ثاب الناس نزل الحلال والحرام ولو كان أول مها نزل منه لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها أبداً ولو كان أول ما نزل منه لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً).
ذلك مُراعاة للتدرُّج والحكمة الواجبة

والله ولي التوفيق

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.