عادل إبراهيم حمد

حمدوك لم يكمل معادلة (الديمقراطية والمشروع الوطني الجامع للسودانيين)

شارك الخبر

أفلح رئيس الوزراء د.عبد الله حمدوك في مؤتمره الصحفي الأول في إرسال إشارات سريعة تناسب طبيعة اللقاء الذي لا يحتمل التفاصيل. واهتم كل متابع بالإشارة التي تخص اهتمامه؛ فتوقف البعض عند تركيز د.حمدوك على الجماعية وهو يردد ويكرر: فلنعمل كلنا.. وأرهف آخرون سمعهم حين أكد الرجل على براغماتية إدارة الاقتصاد, وتطلعت النساء لرئيس الوزراء وهو يؤكد على حقهن في حضور أكبر في منابر العمل العام, وسُرّ كثيرون حين نبه د.حمدوك إلى ضرورة الاعتدال في السياسة الخارجية لتحقيق مصالح السودان العليا.
ما لفت انتباهي ووقفت عنده هو ورود ملاحظة مهمة ورأي سياسي ذي صلة بالملاحظة, لكنهما وردا متباعدين رغم ما بينهما من ربط وثيق, فاختلت المعادلة. الملاحظة التي أوردها رئيس الوزراء هي (منذ الاستقلال لم ننجح كسودانيين في خلق المشروع الوطني الذي يوحدنا كلنا), وهي حقيقة يكملها ذكر ما حال دون تحقيقها. جاء إكمال المعادلة في ثنايا العبارة الجامعة التي قالها رئيس الوزراء في سياق آخر: (الديمقراطية لا يمكن تعلمها من خارج ممارستها), عند الربط بين الملاحظة وهذا الرأي الذي يجع بين السياسة والفكر, ندرك أن الذي أعاق تحقيق المشروع الوطني الموحد للسودانيين هو انقطاع هذه التجربة التي تنضج وتكتمل من داخلها, فنخطئ ونصيب لنتعلم ونرتقي, أي أن (نقع ونقو في الدرب ده)، كما قال د.حمدوك وهو يشرح فكرة تعلم الديمقراطية من خلال الممارسة.
إن التأكيد على ضرورة التعلم من خلال الممارسة يعني بكل تأكيد أن الانقلابيين الذين قطعوا استمرارية التجربة قد ارتكبوا في حق الوطن خطيئة لا تغتفر, وأنهم هم الذين أعاقوا خلق المشروع الوطني الذي تحدث عنه رئيس الوزراء. لكن رغم وضوح هذه الحقيقة الناصعة, نجح الانقلابيون من اليسار واليمين في تغبيش الرؤية, فجعلوا نصيب الأحزاب الجماهيرية الكبيرة المرتضية بالديمقراطية مساوياً لنصيب الانقلابيين, في تعطيل المشروع الوطني الكبير.
كانت البداية أن أشاع الانقلابيون من اليسار واليمين ـ بكل صلف, امتلاكهم أفكاراً متقدمة تعجز عن استيعابها الأحزاب الرجعية الطائفية ـ حسب وصف العقائديين لتلك الأحزاب. وسخّروا لهذه الدعاوى حملات إعلامية ضخمة حتى بدا للكثيرين أن الأحزاب الكبيرة الموصومة بالطائفية تدير البلاد بـ(دراويش) تأتي بهم من الموالد والتكايا, وكأن رجالاً بوعي وثقافة مبارك زروق و محمد أحمد محجوب وعبد الله خليل وإبراهيم المفتي وإبراهيم أحمد وعبد الرحمن علي طه والشريف حسين وخضر حمد وأحمد السيد حمد وعبد الحليم محمد لم ينتموا لتلك الأحزاب. وبعد أن أشاع الانقلابيون أكذوبة انفرادهم بأفكار الوعي والتقدم, أقدموا على السلطة على ظهر الدبابة قاطعين الطريق على تجويد التجربة الديمقراطية من خلال الممارسة, بزعم الإسراع بتنفيذ برامج ضرورية عاجلة يعطلها التلكؤ الديمقراطي. ولما واجه الانقلابيون مصيرهم الحتمي بالفشل في إدارة الاختلاف وتورطوا في ثالوث “السجن والمشنقة والدروة” المخجل, سارعوا بلا أدنى حياء للفرية العجيبة أن (كل) القوى الوطنية شريكة في مصيبة السودان! فكان هذا الخلط المضلل سبباً في المساواة بين المؤمنين بالديمقراطية والمتنكرين لها, ومن ثم في تراجع حقيقة أن الديمقراطية ـ بطبيعتها الرحبة ـ هي النظام المؤهل لأن يتخلق داخله المشروع الوطني الكبير.
لا بد أن تجد الأجيال المتأخرة تفنيداً للدعاوى التي ساقها الانقلابيون لتبرير إقدامهم على الإطاحة بالديمقراطية, ويكون ذلك بالمقارنة بين أخطاء النظام الديمقراطي وما وقعت فيه الأنظمة المستبدة من أخطاء أخطر حين عمدت إلى ما اعتبرته تصحيحاً لأخطاء النظام الديمقراطي. ولنأخذ القرار الخاطئ بحل الحزب الشيوعي في 1965 مثالا كذريعة برر بها الانقلابيون الإطاحة بالديمقراطية في مايو 1969, ومحكمة ردة الأستاذ محمود محمد طه عام 1968 باعتبارها شاهداً على خواء ذلك النظام وعدم جدارته بالبقاء ـ حسب رأي الانقلابيين. ثم إقدام الجبهة الإسلامية على انقلاب يونيو 1989 على الديمقراطية بدعوى استطاعة التنظيم الإسلامي تقديم رؤيته المتقدمة بلا حاجة للديمقراطية.
يفند تلك المبررات أن الحزب الشيوعي قد استطاع تجاوز قرار حله بالاستفادة من تدابير الديمقراطية, فالتف على القرار وجعله كأن لم يكن, موظفاً أجواء الديمقراطية من حريات مكنت الحزب من إدارة معركة مضادة خارج الجمعية التأسيسية أفرغت قرار الجمعية من مضمونه. وليس أدل على ذلك من أن السكرتير العام للحزب الشيوعي (المحلول) عبد الخالق محجوب قد فاز في انتخابات عام 1968 رغم قرار الحل. ولم يكن قرار المحكمة الشرعية بردة الأستاذ محمود أقوى أثراً من قرار حل الحزب الشيوعي.. لكن ماذا حدث لعبد الخالق ومحمود محمد طه في عهد التقدمية والأفكار الحديثة؟
لقد أعدم الرجلان في العهد الذي راهنا على أفضليته, غير منتبهين إلى أن النظام المتنكر للديمقراطية لا يمنح مساحة للاختلاف, فهو نظام أحادي قد يتحكم فيه تنظيم واحد, بل وفرد واحد, لا يسمح باصطراع الأفكار ولا بتكاملها حتى حول مسألة عادية, دعك عن خلق مشروع وطني كبير يتوحد حوله السودانيون. وبذات (السيناريو) لاقى د.حسن الترابي من التضييق والإساءة من أركان النظام الدكتاتوري الذي أتى به, ما لم يجده من خصومه في العهد الديمقراطي.
إن فكرة المقال الجوهرية التي حرصت ألا تفلت من خلال التفاصيل الكثيرة هي أن خطة الانقلابيين مدعي الحداثة للهروب من تداعيات انقلاباتهم المخزية التي قادت خيرة أبناء الوطن للمشانق, هي بذل كل جهد ممكن للمساواة بين أخطاء الانقلابيين القاتلة وأخطاء الديمقراطية التي يمكن تداركها. وهي خطة تؤدي في الخطوة التالية لإظهار الديمقراطية وكأنها لا تتفوق تفوقا بيناً على الأنظمة الشمولية, فيسقط تلقائياً الربط بين تأخر تحقيق المشاريع الوطنية الكبرى وغياب الديمقراطية ـ النظام المؤهل دون غيره لإنجاز هذه المشاريع تحت مظلته.
لقد قدم رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي باقة من الإشارات وجد من بينها كل متابع ضالته. وكان نصيبي رؤيته الناضجة أن الديمقراطية لا يمكن تعلمها من خارجها, لذا لا بد أن نقع ونقوم في الدرب ده؛ لأن درب الديمقراطية وحده هو الطريق الذي نصل به للمشروع الوطني الموحد للسودانيين.

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.