جنرال الكلمة عوض.. أحمد خليفة (ما أظني يوم أنساك من العذاب أسلم) (1 – 2)

الخرطوم: سعيد عباس

ان أنسى لا أنسى ذلك اليوم الذي ذهبت فيه بصحبة مستشار التحرير الراحل أحمد طه (الجنرال) قبل أكثر من عشر سنوات إلى منزل الراحل المقيم الجميل الشاعر الكبير حسين بازرعة بضاحية الفيحاء بشرق النيل، وقتها كان بصحبتنا شاعرنا الكبير الراحل عوض أحمد خليفة، وعندما دخلنا على بازرعة الذي كان يُعاني بعض آلام المرض وقد انتحل جسده الجميل، عندها سأل خليفة بازرعة قائلاً: هل عرفتني؟ ردّ بازرعة بابتسامةٍ عريضةٍ وصوت خافت بسبب الاعياء قائلاً: (عرفتك لأني عُشرة الأيام ما بحق أنساها) فصاح أحمد خليفة قائلاً: (لا وحبك لا وحبك لن ننساها)، فتعانق الجميلان عناقاً مهراه بالدموع مما جعل عدداً من الحاضرين يذرف مآقيهم.

هو العوض أحمد خليفة واسمه الحقيقي في شهادة ميلاده العوض وداعة الله أحمد خليفة بدلاً من عوض الذي اشتهر به وذاع صيته، واسم العوض جاء نتيجة وفاة اثنين من أشقائه ثم وُلد بعدهما ليسميه والده (العوض).. وُلد في عام 1931م بأم درمان حي الموردة شارع الفيل.
بداياته
بدأ عوض كسائر أقرانه بدخول الخلوة وذلك في بداية ثلاثينيات القرن الماضي وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتدرّج بعد ذلك إلى رياض أطفال الأحفاد والكُتّاب، وبعد ذلك المدرسة الأميرية بأم درمان، وكان من أبناء دفعته في ذلك الزمان الموسيقار عبد الله عربي ومنصور خالد والرشيد الطاهر بكر، وقتها كان مولعاً بالسباحة وكرة القدم وتقديم الأشعار في الجمعيات الأدبية بالمدرسة، ويذكر خليفة أنه زامل في فترة أخرى من حياته الدراسية كلاً من مصطفى أبشر وزير الخارجية الأسبق والطيب ميرغني شكّاك وزكريا عادل الطاهر المسؤول بوزارة التربية والتعليم، ويقول خليفة إنه قد قرأ يوماً إعلاناً عن وظائف بمصلحة البريد والبرق (البوستة) وذلك بعد أن توقّف لفترة قصيرة عن الثانوي العالي فقدم أوراقه للمعاينة هناك، وذكر أن والده كان من كبار المسؤولين والمفتشين بمصلحة البريد والبرق وجاء عوض لسماع نتائج مُعاينات التوظيف وقد (نَدَه) الموظف باسم عوض أحمد خليفة كأول شخص اجتاز المُعاينة، إلا أنّ والده كان في مكتب مُجاور وسمع الموظف يذيع اسم عوض فجاء مهرولاً وقال: (عوض بتاعي انا واللا واحد غيرو؟) فأخذه عنوةً ونهره وقال: (هو أنا لقيت فيها شنو يلا على قرايتك)، فمسك عوض إلى المنزل، وفي اليوم الثاني ذهب به إلى المدرسة الأميرية، وعندما كان عوض متفوقاً بصورةٍ دائمةٍ، صادف والده، المدير الذي كان سعيداً بعودة العوض وقال (هذه بضاعتنا رُدّت).
فخور بوالدته لهذا السبب
يعتبر عوض أحمد خليفة أنّ والدته أنموذج يُحتذى به في الوفاء والإخلاص رغم تداخُل بعض العادات البدائية في ذلك الزمان والتي أودت بحياة والدته في سن مبكرة، وذلك لأنّ والدته عندما جاءها المخاض وتعثّرت ولادتها استنجد بعض الأقارب بالطبيب لإنقاذ حياتها، إلا أنها قالت لن يدخل عليّ رجل غريب في هذا الأمر إلا بعلم زوجي أحمد خليفة مهما كلّف ذلك حتى لو أودي بحياتي، وقتها كان الوالد مسافراً في إحدى مأمورياته فوافاها الأجل حينها وذلك في 1936م، ليعيش عوض مرحلة يُتمٍ في سن مبكرة وعمره لا يتجاوز الخمس سنوات أو الست.
عوض طالباً بكلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم حالياً)
تدرّج عوض في مراحله التعليمية بامتياز إلى أن دخل كلية غردون التذكارية في بواكير خمسينيات القرن الماضي، وقد نبغ في دراسته كطالبٍ بصورةٍ مُلفتةٍ للأنظار، إلا أنه كان كثير الاختلاف والنقاش الحاد مع أستاذ الإنجليزي الذي كان يدرس مادة التاريخ، حيث يرى عوض أنّهم يدرسون المادة وفق مُخطّط استعماري يغفل عن كثيرٍ من الحقائق التاريخية، ويُؤكِّد بالأدلة والبراهين ذلك لمُعلِّمه، لدرجة أن المعلم أصبح يتفادى معه النقاش. وفي السنة قبل الأخيرة ظهرت نتائج العام الدراسي وتفوّق عوض كثيراً على زملائه في كل المواد إلا مادة التاريخ التي كان يُجادل فيها أستاذه كثيراً، حينها أجمع عدد كبير من الطلاب على أن الأستاذ عمد عن قصدٍ إفشال العوض في تلك المادة.
عوض طالباً حربياً
يئس عوض من الجامعة بسبب أستاذ مادة التاريخ وتركها، ولكنه لمح بعد فترة إعلاناً للكلية الحربية لطلبة حربيين، فقام بتقديم أوراقه هناك ولم تكن البيئة العسكرية غريبة عنه، خاصةً أنه من أسرة عسكرية، حيث كان جده خليفة ضابطاً بالجيش المصري وخاله يتبع لأحد أفرع قوة دفاع السودان، فاجتاز عوض المعاينات الأكاديمية والرياضية بدرجة عالية وتم قبوله طالباً حربياً بالكلية الحربية السودانية وذلك في 19 فبراير 1950م، وعقب دخوله للكلية الحربية جاءه خطابٌ من دفعته وزملائه بالجامعة يقولون له فيه إننا الآن ندرس الطب في الجامعة المصرية بالقاهرة وأنت درجاتك أكبر منّا وهم لا يحتاجون لمادة التاريخ في تلك الكلية العلمية، فهل يُمكن أن تأتي، وقتها فكّر عوض في أن يكون طبيباً وهو المُؤهّل لذلك وفق درجاته بالكلية، وعلم فيما بعد أنه يُمكن لأيِّ طالب أخفق في مادة أن يمتحنها كملحق مرة أخرى، لذلك قرر أن يسأل الضابط المسؤول عن دفعتهم بالكلية الرائد حسن الصادق وقال له: (يا سعادتك هل يُمكن أن أتفرّغ لقراءة الطب مثلاً بجانب العمل العسكري أو أخرج من الكلية وأذهب إلى الطب، يقول عوض: حينها صاح الضابط في وجهي غاضباً وقال: يلا بلا كلام فارغ معاك إنت ماخد فرصة بالكلية وتريد أن تضيِّعها وبذلك تكون قد ضيّعت شخصاً آخر كان في انتظارها، وتريد أن تعمل داخل المؤسسة العسكرية بمزاجك يلا أخرج أخرج)! حينها قال عوض: أخرجت من رأسي قصة الطب نهائياً، حدث أن سألته وقلت له يقال إنك دفعة الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري فقال بكل كبرياء (أنا ما دفعة نميري ولكن نميري هو دفعتي)، فقلت له وما الفرق؟ قال أنا كنت أول الدفعة، فأول الدفعة هو من تُسمى الدفعة به ويُنتسب إليه الآخرون وليس العكس!
تم رفته من القُوّات المُسلّحة
تخرج عوض في الكلية الحربية 19 فبراير 1955م وعمل بسلاح الإشارة والهجانة بالأبيض، وسافر إلى جنوب السودان في عدد من المأموريات، إلا أنه كان منتمياً انتماءً سرياً لتنظيم الضباط الأحرار بقيادة الضابط عبد الرحمن كبيدة وعدد من الضباط، وقد كان عوض مقرراً لهذا التنظيم، وكان هدف هذا التنظيم هو تحرير السودان من قبضة حكم المُستعمر، وعندما نال السودان استقلاله، خاطبهم رئيس هذا التنظيم قائلاً إن الهدف من تنظيمنا هو الحراك الداخلي للضباط الأحرار من داخل المؤسسة العسكرية لتحرير البلاد، ولكن بعد أن نال السودان استقلاله، فإني أرى أن هذا التنظيم قد أدى ما عليه وانتهى دوره، لذلك أعلن انسلاخي منه، وبالفعل ترك عوض العمل مع هذا التنظيم بسبب استقلال البلاد، ولكن قد تم فيما بعد اتّهام الضابط عبد الرحمن كبيدة بتدبير محاولة انقلابية إبان حكم الفريق عبود، فقام النظام وقتها بإحضار قائمة الضباط الأحرار ومن بينهم عوض الذي ترك ذلك التنظيم من فترة طويلة وقاموا بإيقافه من الخدمة، على أن يكن تحت التحقيق لفترة طالت كثيراً إلى أن ذهب بنفسه للفريق عبود في منزله وحكى له قصته فوعده الفريق بحل المشكلة جذرياً، ولكن بعد فترة جاء خطاب رفته تماماً من القوات المسلحة السودانية.
خليفة ضابطاً إدارياً بمشروع الجزيرة
قدّم عوض أوراقه لمشروع الجزيرة الذي لم يجد صعوبة في العمل به وفي مرتبة عالية بدرجة ضابط تفتيش إداري بالمشروع، وذلك لتأهله الأكاديمي العالي فعمل بين منطقتي (أبو جن) و(أبو قليعة)، وقتها وجد مساكن من المواد البلدية في شكل مُعسكرات بجوار المشروع لعددٍ من النازحين الأفارقة الذين كان يستغلهم الضباط الإنجليز في عمليات الحش والزراعة والحصاد والري عندما يتقاعس أهل الحواشات الأساسيين وأهل المشروع، وقتها رفض عوض ذلك الأسلوب وذهب وتعرّف على كل أهالي منطقته بالمشروع فرداً فرداً، وعندما يتأخّر أيِّ فرد من أيِّ عملية فلاحية، يذهب عوض إلى منزله ويناديه باسمه ويقتاده من يديه إلى (الحواشة) حتى يكمل ما عليه، وفي آخر العام جنى المزارعون أموالاً طائلة، وقالوا لعوض لم يحدث لنا في تاريخ هذا المشروع أن جنينا مثل هذه المبالغ على الإطلاق، وفي سابقة تُعد الأولى من نوعها، قام الأهالي بتكريم العوض في حفل الحصاد، وفي إحدى المناسبات الاجتماعية كانت هنالك احتفائية لأحد أعيان المنطقة، فجاء أحد المتعاونين بالمشروع وكانت له حواشتان هناك، يأتي ليتابعهما مع إدارة المشروع بصورةٍ دائمةٍ، وفي تلك المُناسبة تقدّم ذلك الشاب الوسيم الخلوق صاحب الحواشتين بوصلة مدائح نبوية وفاصلٍ لعددٍ من أغاني الحقيبة وأغنيات رُوّاد الزمن الجميل، فسرق ذلك الشاب ألباب كل الحاضرين لطلاوة صوته ونداوته وقُدرته العالية على التطريب، فقال له عوض (سيبك من الحواشات دي احنا بنتولاها ليك، وهاك الجواب دا أمشي بيهو لمدير الإذاعة السودانية وقول ليه أنا من طرف عوض أحمد خليفة)، وبالفعل أخذ الشاب الخطاب وذهب للإذاعة فاجتاز كل المُعاينات الأولية وبعد ذلك أصبح من الفنانين الذين يُشار إليهم ببنان التميُّز والنجاح، كان ذلك هو الفنان هو الراحل المقيم صلاح بن البادية.
خليفة يعود إلى القوات المسلحة
عمل خليفة بالجمعيات التعاونية في عددٍ كبيرٍ من أقاليم السودان المُختلفة، حيث شارك في حل أكبر مُشكلة من مشاكل التعاون بمنطقة (القدار) وسط الأهالي والأصدقاء وأبناء المنطقة دون اللجوء للقضاء أو المحاكم، ولكن في بداية ثورة مايو أعاده ابن دفعته وزميله بالكلية الحربية الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري إلى الخدمة برتبة العميد حسب ترقيات دفعته وزملائه، نظراً لفصله التعسفي والظالم من القُوّات المُسلّحة..!
نواصل،،،

شارك الخبر
Leave A Reply

Your email address will not be published.